-->
سوق الكتب وزيارة السيد الرئيس وحرمه  

سوق الكتب وزيارة السيد الرئيس وحرمه  

سوق الكتب في بغداد ظاهرة مميزة ومختلفة عن شبيهاتها في مدن العالم العربي، أو الشرق الأوسط، ظاهرة شارع الكتب، أو كما بات يعرف بشارع الثقافة، هي ظاهرة ولدت في تسعينيات القرن الماضي، ظاهرة حولت شارعا في قلب بغداد القديمة، هو شارع المتنبي القريب من سوق السراي، إلى شارع يتجمع فيه المختصون ببيع الكتب، وكل ما يرافق ذلك من نشاطات ثقافية.

أهمية الظاهرة تمثلت بتحول الشارع إلى رمز للتحدي الذي مارسته شريحة من المثقفين متحدية ضغوط العقوبات الاقتصادية التي طالت العراق في تلك الحقبة، عندما افترش العديد من المثقفين، من كتاب وباحثين وأكاديميين أرصفة الشارع بمكتباتهم الشخصية لتولد ظاهرة مكتبات الرصيف في شارع المتنبي.

تزامنا مع ظاهرة مكتبات الرصيف، ولدت ظاهرة أخرى ساندة لوجود شارع المتنبي، وهي ظاهرة “إعادة صناعة الكتاب” عبر تصويره بماكنات الفوتوكوبي لتوفير نسخ مصورة بأسعار رخيصة لطلاب المعرفة من طلاب جامعات ومثقفين وقراء. صحيح أنها كانت عملية قرصنة، لكنها مثلت حلا وتحديا للحصار الثقافي الذي فرضته قوانين الحصار الدولي على العراق، ومنعت الناشرين من إيصال كتبهم إلى العراق، لذلك ارتبط هذا الشارع برمزية التحدي، وعدم رضوخ المثقف لضغوط لقمة العيش، ومحاولته خلق الفرص الشريفة المساهمة في الابتعاد عن تملق النظام. الظاهرة نمت وأصبحت شيئا لافتا في بداية الألفية الجديدة. عندما أطيح بالنظام السابق عام 2003، بات الشارع مزارا لوسائل الإعلام العالمية والقنوات الفضائية الباحثة عن متحدث أو ضيف من كل صنوف المتعاطين مع الشأن العام، سواء في الادب أو الصحافة أو السياسة، وسواء كانوا أكاديميين أو على هامش الأكاديمية العراقية.

يدشن برهم صالح رئاسته في معقل المثقفين، مصطحبا السيدة الاولى، بينما لم ير العراقيون سيدتهم الأولى منذ 2003

مع الخراب الذي اجتاح كل مدن العراق، بدءا من العاصمة حتى أبعد قرية فيه، حاول هذا الشارع أن يبقى رمزا لجذوة أمل في نفس المحدق في رثاثة الحال العراقي، وبقيت بضع ساعات من صباحات يوم الجمعة تمثل، حتى في أعتى أيام السواد التي مرت على العراق، تمثل كوة صغيرة يتسرب منها بصيص ضوء لم تستطع أنفاس الحقد الكريهة أن تطفئه. تحول الشارع إلى ظاهرة، جذب له الكثير من القادمين فضولا، أو نزهة، وبحثا عن تغيير، أو بحثا عن ساعات يقضونها مستمعين لنقاش في حدائق القشلة، أو المراكز التي تقدم صباحاتها الثقافية في الشارع كل أسبوع، حتى أصبحت ظاهرة زيارة الشباب من غير المعنيين بالشأن الثقافي بشكل مباشر لشارع المتنبي أمرا يثير الكثير من التندر والاستهزاء واللمز، في صفحات التواصل الاجتماعي، باعتبار هؤلاء الشباب مدعي ثقافة، لكنني لا أتفق مع ظاهرة الاستهزاء بهؤلاء الشباب، ولا أرى مثلبة في زياراتهم لهذا الشارع ومظاهره الثقافية، بل بالعكس أراها أمرا جميلا ومفيدا، فحتى لو تفرج الشاب أو الفتاة على مكتبات الرصيف فقط، أو استمع لأغنية هنا أو نقاش من مجموعة وسط صباحات ثقافية هناك، فإن هذا سيمثل خطوة أولى نحو شيء أكثر فائدة ومتعة ومعرفة في المستقبل.

مع تعرض شارع المتنبي لتفجير إرهابي بسيارة مفخخة في مارس/آذار 2007، راح ضحيته العشرات من الضحايا، ارتقت رمزية الشارع وازداد رصيد المثقف في المشهد، باعتباره صرخة حق بوجه الكراهية والتشدد والانغلاق، الذي اجتاح المجتمع العراقي، لكن من جانب آخر يجب أن لا ننسى محنة المثقف العراقي وعلاقته بواقعه الرث، فقد حاول عدد غير قليل من الساسة الجدد شراء ذمم المثقفين ونجحوا في ذلك، بما عرضوه من فرص عمل في دكاكينهم التي لبست ثوب المؤسسات الاعلامية أو مراكز الدراسات، وتم تدجين طيف واسع من شريحة المثقفين بحكم اشتغالهم في مؤسسات الساسة الجدد، المحلية والإقليمية ليتحولوا بالنتيجة إلى بيادق يحركها ساسة جهلة كيفما شاءوا بشكل مخز، لكن هل فقد شارع المتنبي رمزيته بعد كل الخراب الذي حاق بالمشهد العراقي بشكل عام، والثقافي بشكل خاص؟ بالتأكيد لا، وبقيت هذه السويعات تمثل رئة العراقي التي تساعده على استنشاق بعض الهواء الذي يمنحه أملا بإمكانية التغيير، ومن هنا تحديدا جاءت خطوة رئيس الجمهورية الجديد برهم صالح، التي رتبت زيارته لشارع الكتب، شارع المتنبي يوم الجمعة 19 اكتوبر/تشرين الأول 2018، للأمانة كنت اتابع الامر، بالصدفة، عبر بث مباشر من صفحة أحد الاصدقاء على فيسبوك، وشاهدت بعد ذلك صور الزيارة التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي  بشكل مكثف.

كان عدد غير قليل من اصحاب مكتبات الرصيف أو المكتبات الرسمية والناشرين والمثقفين المتواجدين صباح الجمعة يبدون متذمرين قبيل الزيارة وإبانها بسبب العدد الكبير جدا للقوات العسكرية التي وصفت بأنها (احتلت) الشارع لتأمين زيارة الرئيس، وقد قال بعض المتحدثين في بث مباشر على صفحات الفيسبوك إن شارع المتنبي تم عزله بقوات عسكرية نزلت على المكان بطريقة تشبه الاقتحامات في المعارك الحربية، وتساءلوا لماذا كل هذه العسكرة؟ وهل فعلا هنالك خطر بهذا الحجم على حياة الرئيس؟ ألم يكن بإمكان برهم صالح زيارة المكان عبر تأمينه من المخابرات أو الجهات الامنية المختصة التي تعرف كيف تدير الأمر بدون أن تضايق المواطن؟ لكن من جانب آخر رأى بعض المتابعين في الزيارة جانبها المشرق، واعتبروا المتذمرين شريحة من المتثاقفين الذين لا يمكن ارضاؤهم بأي شكل من الأشكال، وأشاروا إلى أن أهمية الأمر تكمن في أن برهم صالح يمثل أول رئيس جمهورية يزور سوق الكتب وهو في سدة الحكم. هذا الرئيس الشاب الذي جاء تسنم كرسي الرئاسة بعد فؤاد معصوم، الذي تندر عليه العراقيون كثيرا، باعتباره قضى مدة رئاسته نائما، بينما يدشن صالح رئاسته ومنذ أيامه الاولى في معقل المثقفين، مصطحبا السيدة الاولى، بينما لم ير العراقيون سيدتهم الاولى منذ 2003. بدا الرئيس وحرمه شابين طبيعيين بمظهريهما غير الباذخ يمشيان في الشارع بين جموع الناس يتفرجان على مكتبات الرصيف، ليشتري الرئيس بعد ذلك مجموعة شعرية لمحمود درويش وأخرى لبلند الحيدري، بينما تشتري السيدة الاولى كتابا عن الزراعة في العراق، وهي الاكاديمية في هذا التخصص، ثم يمشيان ليدخلا مقهى الشابندر الذي يجلس فيه مرتادو شارع المتنبي ويحتسيا الشاي العراقي بالاقداح الصغيرة، وهما يستمعان إلى حديث الحاج محمد الخشالي صاحب المقهى.

كل ذلك اعتبره المتفائلون صفحة جديدة تبشر بخير مقبل، بينما نبش المتشائمون فيما خفي من الموضوع واعتبروا الزيارة محاولة قام بها برهم صالح لغسل مواقفه الانفصالية السابقة، وتسويق نفسه بصفته رئيسا عراقيا لكل الشعب، متواضعا، محبوبا، يبدأ مشواره الرئاسي بطريقة مختلفة عمن سبقه، عبر زيارة تملق للمثقف العراقي في شارعه الرمز. كما سود المتشائمون صفحاتهم في تويتر وفيسبوك بأصرار الناظر إلى نصف القدح الفارغ، عندما ركزوا على أن مشهد العسكرة المفرطة التي صاحبت الزيارة الرئاسية، غيبت عمدا عن صور المتفائلين التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، كما تجدر الاشارة إلى ظهور الشامتين بالمثقفين، وهم يضحكون ملء اشداقهم  شماتة بالذين عيروهم بانهم تكأكأوا على الرئيس، كما يحصل في زيارة أي مسؤول لمنطقة ريفية فقيرة حين يتجمع الفضوليون وطالبو المعونات، الهاتفون الرادسون المهللون. وقال الشامتون هكذا كان حالكم ايها المثقفون مع أول زيارة يقوم بها الرئيس لكم، فلماذا كنتم تعيبون ذلك على الناس العاديين إذن؟ أنا من جهتي أفضل أن أبقى متمسكا بـ”تشاؤلي”، الذي اعتبره أحد المفاتيح المهمة للتناول الموضوعي لأي ظاهرة. فأنا متفائل بزيارة الرئيس التي أرسلت إشارات مهمة تبشر بخير مقبل، لكن هذا لا يمنع من بعض التشاؤم، وأنا أنظر إلى كل الذي قيل من انتقادات للزيارة، لأنني أعلم إنها كانت في بعض جوانبها محقة. ولا يختم الموضوع إلا بالإشارة إلى اهمية تسليط الضوء على علاقة المثقف بالسلطة في العراق، والإشارة إلى أن الامر بات مهما، ويجب أن يدرس بعلمية وموضوعية من مختلف جوانبه، لذلك اقول إن لي حديثا مقبلا في هذا الامر إن اعطانا الله عمرا.

كاتب عراقي

المقال كاملا من المصدر اضغط هنا

nad

The post سوق الكتب وزيارة السيد الرئيس وحرمه   appeared first on بتوقيت بيروت.



from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2JbzXSR
via IFTTT

0 تعليق على موضوع "سوق الكتب وزيارة السيد الرئيس وحرمه  "

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel