
منافقة الشعوب لتبرير الاستبداد

لا يُمكن المحافظة على الدول عن طريق الكلمات والشعارات الرنّانة، فهي عنوان التّيه والضياع وبداية انهيار الدولة، وما تُعانيه تونس من أزمات اقتصادية متلاحقة سببه اشتغال الحكومات المتتالية بالوعود الكاذبة واكتفاؤهم بترديد الكلام ذاته بدون خطوات ملموسة أو عملية، وهي مسارات عطّلت رهانات تفاعل الفرد مع الدولة – الأمة في محيط استنفد كل الأيديولوجيات الدينية والسياسية، والثورات قامت لتجاوز سلطة استبدادية، استنزفت كل الأيديولوجيات التبريرية الشمولية، ومن أجل ديمقراطية مواطنية تُهندس وعيا بديلا، وتبحث عن إصلاح حياة الإنسان العربي ماديا ومعنويا صونا لمعاني إنسانيته وحفظا لكرامته مثل باقي أمم الأرض.
في الأثناء، كأنّنا بالفكر السياسي العربي مازال يُدير رعايا ضمن سلطة تتقصّد أن تكون أبوية بطرياركية تشبُّهًا بالبناء السياسي في الفكر الشرقي القديم في مصر والصين وغيرهما، وهو ما يفرض نوعا من الخضوع الأدبي والأخلاقي للحاكم، الذي يمارس سياسة لا تُنزع عنها القداسة، فهو»المعبود الطيب» كما سمّي قديما الملك الفرعوني تقديسا ومهادنة، باعتباره إلها أو ابن إله. ولكن من الواجب التأكيد على أنّه لا يستطيع أحد مهما طال الزمن أن ينتزع السلطة المطلقة ليحكم كما يُريد رغما عن إرادة المحكومين، فالحكومات الشرعية تستمدّ سلطاتها العادلة من رضى الجماهير، والحكومة التي تصبح هادمة لتلك الغايات من حقّ الشعب أن يُزيلها ويغيّرها. ومن ثمّة يُقيم حكومة جديدة تُنظّم سلطاتها بشكل يخدم أمن مواطنيها ويُحقّق رفاهيتهم ضمن أطر تعاقدية ومواطنية. وتبِعا لضخامة القصد في شأن ماهية الحياة الديمقراطية المدنية يغلبُ على القيادات السياسية كُرهها للديمقراطية واحتقارها لها، خاصّة أولئك الذين تكون لديهم حصة في السلطة والامتيازات، لأنّ النظام الديمقراطي سيحرمهم من ذلك بموجب القانون الحقيقي في دولة ديمقراطية .
وعلى هذا الأساس انتهى الأمر بالحكومات المتعاقبة في تونس إلى تكريس منطق غير تشاركي في إدارة الشأن العام، عناوينه الكبرى إثقال كاهل الفئات الكادحة بالضرائب والزيادات المشطّة في الأسعار في مواد استهلاكية وخدماتية عديدة، ومطالبتها بالتقشّف عوض تفعيل الحلول للمشكلات المجتمعية، وتصويب السياسات الحكومية، وتقديم شحنة أمل للمهمّشين عبر اعتماد استراتيجية تنموية تحدّ من التفاوت الجهوي، ولا يتمّ فيها الاختصار على تدخّلات محدودة المدى تفتقد الفاعلية التنموية، وتهتمّ بأعراض الأزمة دون أسبابها العميقة. وعندما يصبح المشهد السياسي والحزبي أبعد ما يكون أن يمثّل عامل استقرار وطني أو إطارا فاعلا في بناء العملية الديمقراطية، يُصبح التخلّي عن حكومة مفلسة أفضل بكثير من إفلاس الدولة، خاصّة مع تمتين البنية الكلاسيكية للفساد والإفساد. ومن البديهي أن يُغيّر الوضع الاقتصادي الصعب والفشل الحكومي قواعد المسار الانتخابي مستقبلا، في الوقت الذي لم يغادر الوسط السياسي التونسي نوازع التناحر الأيديولوجي والصراعات الوهمية البعيدة عن مصالح الشعب. وأمام طبيعة النظام السياسي الغامض، وضعف المؤسسات السياسية الرسمية في استيعاب معطى الحكم، وفي التعامل مع القضايا الاجتماعية، يجد المواطن التونسي نفسه رقما ضريبيّا لا أكثر، ازداد بؤس حاله المعيشي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. وهو يُتابع مشهد احتكار الدولة لمصلحة فئات معيّنة أثقلت كاهل المجموعة الوطنية بالنّهب والسّلب والصفقات غير المشروعة. ويرى عجز الدولة الواضح في رسم مخططات جدية لتفعيل الثروات الوطنية، وللحصول على ادّخار وطني من شأنه أن يساهم في رفع الاقتصاد والابتعاد عن الإغراق في التداين الخارجي، لما له من تبعات أفدحها مصادرة القرار الوطني لصالح البنوك والمؤسسات الدولية المانحة. وبالمحصّلة لم تستطع حكومة الشاهد المتمترسة في السلطة، مراجعة قيمة الواردات والحدّ من طابعها العشوائي، ولم تقدّم ما يمكن من استراتيجيات في سبيل استعادة ثقة المستثمر أو ضمان استقرار مالي يخفّض مستوى التخوّف لدى التّونسيين، ويستكين له من يراقب الوضع الاقتصادي والسياسي في تونس، بما في ذلك وكالات الترقيم السيادي والهيئات الدولية المقرضة، ومثل هذا الغياب التامّ للاستراتيجية التواصلية والأداء التنفيذي الفاعل، أخضع الدولة لإملاءات البنك الدولي، وجعلها في وضع تُوجّه مداخيلها لسداد مصاريف التسيير الإداري على حساب نفقات استثمارية ممكنة، أو خلاص ما تخلّد بذمّتها من التزامات مالية ضخمة. لينتهي المسار إلى تعميق الركود الاقتصادي في كلّ القطاعات المنتجة للقيمة المضافة، ومن الطبيعي أن يؤدّي كلّ ذلك إلى الاضرابات الاجتماعية ويزيد في غموض المشهد العام وقتامة تفاصيله.
*كاتب تونسي
المقال كاملا من المصدر اضغط هنا
Rim
شاهد أيضا
from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2E73e1j
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "منافقة الشعوب لتبرير الاستبداد"
إرسال تعليق