-->
حين يبتذل الكلام… الإرهاب يضرب من جديد

حين يبتذل الكلام… الإرهاب يضرب من جديد

حين علمت بفاجعة دير الأنبا صموئيل المعترف التي راح ضحيتها ثمانية أشخاص، وبعد أن شعرت بالإحباط والمرارة، حرت في ما يمكن أن يقال. أيقنت بواجبي الأخلاقي في الكتابة مندداً بجريمة قتلٍ على الهوية، اغتيل فيها مواطنون مسالمون عزل بدمٍ بارد، كما أدركت حاجتي إلى ذلك تعبيراً عن فزعي وغضبي من سيل الدماء المستمر، جراء الإرهاب بشتى أشكاله وعلى يد مختلف أطرافه.
بيد أنني شعرت بالعجز المحبط من تكرار الكلام نفسه، خاصةً حين لم يتأخر خبر تمكن الأمن من تصفية العناصر الإرهابية المسؤولة في أقل من ثمانٍ وأربعين ساعة، كالعادة تماماً.
للوهلة الأولى إذن عزمت على عنونة المقال بـ»حين سكت الكلام» إلا أن ردة فعل بعض الكتاب، وذلك التكتم المريب المهين، أو بالأدق تعمد إماتة الموضوع، دفعانني إلى التغيير، فحين يتساءل البعض مستنكراً عن جدوى ما نادى به بعض المفجوعين من إلغاء مؤتمر الشباب العالمي، مدعين أننا يتعين علينا أن نثبت للإرهابيين والعالم بأسره أن الإرهاب لن يعرقل مسيرتنا، وإلا عُد ذلك اعترافاً ضمنياً بأن ضربةً كتلك هزت الدولة، إلى غير ذلك من كلامٍ مشابه يتستر وراء الموضوعية وكلمات التحدي والثبات، ولا يهدف في حقيقة الأمر سوى لتمرير الجريمة وتفريغها من مضمونها، وإجهاض الأسئلة المشروعة التي لا تفرضها الجريمة فحسب، وإنما تكرارها ووتيرتها مع ردة الفعل الـ»تصفوية» المعتادة. حينذاك لا يصح الحديث عن موت الكلام، فأحياناً يكون الصمت والموت شريفين، أو على الأقل أوفر صدقاً، اعترافاً بالعجز والحيرة مشروعاً في نهاية المطاف، أما ما يكتب وينتهج وتلهج به الألسنة فيندرج في حقيقة الأمر في خانة ابتذال الكلام وعهره.

حين تتكرر كارثةٌ كتلك لتضاف إلى سجلٍ متضخمٍ بما يتراكم فيضاف إليه من الحوادث الإرهابية التي تطال المواطنين المصريين، مسلمين ومسيحيين، فإنه يتحتم طرح أسئلةٍ عديدة، بل بالأدق إعادة طرحها فهي لم يُجب عليها ولم ترحل قط، وإن توارت بما يزاحمها من مستجدات الحياة واستعصاءاتها: قيل لنا منذ عدة سنواتٍ لم أعد أحصيها أننا سنتسلم سيناء متوضئةً بعد شهر، ولم ينقض هذا الشهر طيلة كل تلك السنوات المتعاقبة، فما سبب كل هذا الفشل وانعدام الكفاءة ذاك؟ وهل سيستمر مسلسل التغطية بالأكاذيب؟ من هم الإرهابيون بالضبط؟ أهم مجرد التنظيمات المسلحة؟ فما بال النظام الذي يصفي مواطنين عزلاً في مواقف عديدة، ولعلنا نذكر الخمسة الذين تم اغتيالهم للتغطية على مقتل جوليو ريجيني وغيرهم عديدين، ممن تُلصق لهم التهم وما أكثرها؟ هل تنتفي صفة الإرهاب عن النظام لمجرد ادعائه مشروعية احتكار أدوات العنف، التي لا نراه يستخدمها سوى في قمع مواطنيه والتنكيل بهم، وخنق الحريات وملاحقة الناشطين والعاملين في المجال العام، أو بالأدق محاولي العمل في المجال العام المختنق المحاصر المُداس عليه؟ وطالما ذُكر مؤتمر الشباب العالمي، هلا شرح لنا أحد ما الهدف والجدوى من جلسات المصاطب والديوانيات تلك؟ وأين هم الشباب الذين «يأتمرون» لهم في هيكل الدولة ودوائر صنع القرار (بفرض وجود هذه الدوائر)؟ كثيرون من الشباب الذين برزوا في الثورة التي يكرسها الدستور غيبتهم جدران السجون في قضايا مختلقة وسخيفة، وطالما أنهم «شطار» ومحنكون إلى هذه الدرجة ويستطيعون تصفية الجناة بهذه السرعة فلماذا لا يمسكونهم قبلها؟ ثم السؤال المكرر الأبدي: لما أجمعنا على أن ثمة بيئةً حاضنة للإرهاب وأفكاراً تغرسه وتسقيه، فما السبيل لاستئصالهما؟
لن يجيب النظام ولا إعلاميوه على هذه الأسئلة لأنه من ناحية فإن بعض الإجابات تدينهم، ولأن بعضاً من الأسئلة لم يتفتق ذهنهم عن الاهتداء إلى حلها، ومن ناحيةٍ أخرى أهم لأنهم لا يكترثون، وليس الموضوع في قائمة أولوياتهم من الأساس.
بدايةً، من المفيد بمكانٍ لفهم طبيعة عمل هذا النظام أن نذكّر برثاثته، وفقدانه لأي أيديولوجيا واعية، وبالتالي فخلا التنسيق الأمني المنصب على غرضٍ واحد، وهو تأمين النظام وضمان بقائه بانحيازاته الاجتماعية – الاقتصادية، فإن عقده العصبية ومراكزه وأجهزته ودوائره لا تنتظم في كلٍ منسجمٍ متماسكٍ صقلته التربية الحزبية للكوادر، والعقائد والمراس السياسي، بل يغلب على سلوكه الارتباك والتضارب، ولا يسعفه ويبقيه في منصبه سوى ضعف وتشرذم مناوئيه لأسبابٍ ليس هنا مجالها.

سيضرب الإرهاب مرةً أخرى وسيرد إعلاميو النظام مقللين من شأن الجريمة، متباهين بمقدرتنا على امتصاص الآلام وتحمل نزيف الدماء

في هذا السياق فإن أكبر تضاربٍ يشكل أساس مشكلة الإرهاب التي نحن بصددها هي أن النظام الذي من المفترض فيه أن يحارب الإرهاب ويجفف منابعه، لا يستطيع البقاء أو الاستغناء في حقيقة الأمر عن فصيلٍ إسلامي ما، يتحالف معه ويدعمه ليضبط به أوسع قطاعٍ ممكن في الشارع، وهو ما يوفره له السلفيون الآن، بانتشارهم في طبقةٍ اجتماعيةٍ واسعة، دون تلك التي كان يخاطبها الإخوان في الأغلب الأعم، شريحة أخرى في البورجوازية الصغيرة، وبطبيعة الحال فقد يتغير التنظيم أو الفصيل لكن الاحتياج باقٍ، لا يقل ولا ينتفي، لاسيما وأن البديل، أي الأفكار العلمانية واليسارية سوف تطرح لا محالة أسئلةً وتطالب باستحقاقاتٍ ليس لدى النظام أي استعدادٍ لمواجهتها، أو تقديم أي تنازلاتٍ بمقتضاها. في هذا السياق أيضاً يلزم التذكير بأن التكوين الفكري والنفسي لكثيرين من رجالات النظام وضباطه ينطلق من مفاهيم مقاربة (إن لم نقل مطابقة) لتلك التي ينادي بها علناً السلفيون، من أفكارٍ وصائية و»رعوية» ترى في الشعب والناس «رعيةً» أو قطيعاً لابد أن يساق، إلى غيرها من الأفكار عن الخروج عن الإمام المتغلب، بما يعود إلى بطون الكتب الصفراء، واللطيف واللافت أن كثيراً من «ضباطنا» وإن كانوا لم يقرأوا هذه الكتب، إلا أنهم مسكونون بالأفكار التي تشكل ثقافةً أو أيديولوجيا عفوية ومتاحة، مما تستبطنه ثقافة المجتمع السائدة، بكل أسف، كما يتعين أيضاً التذكير بأن تلك «الحزمة» من الأفكار تم استدعاؤها بعد أن كانت قد ذوت من قبل السادات وتحالفه الشهير مع القوى الإسلامية في سبعينيات القرن المنصرم.
غير أن المشكلة لا تكمن أو تقف في طبيعة تحالفات النظام فحسب، بل على صعيدٍ آخر عملي، فهو لا يعرف غير الضرب أسلوباً، وأكبر دليلٍ على ذلك هي تلك التصفيات التي تتم مباشرةً بعد كل عملية، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التعذيب الوحشي البشع والممنهج الذي يمارس في المعتقلات، والذي يحول السجون والمعتقلات إلى «مفارخ» للتطرف والنزعات الانتقامية الإرهابية التي ترفد العنف.
لكل ما سبق لن يتطوع النظام بإجابةٍ، ولن يجد حلاً لأن ذلك يعادل إقدامه على نقد ونقض نفسه وممارسته تصفيةً ذاتية بتخليه عن تلك المعادلة التي تسمح له من ناحيةٍ بالبقاء، ومن ناحيةٍ أخرى بإفراز إرهابييه، وسنظل عالقين في هذا المستنقع ما بقي هذا النظام.
سيضرب الإرهاب مرةً أخرى وسيرد إعلاميو النظام مرةً أخرى مقللين من شأن الجريمة، متباهين بمقدرتنا على امتصاص الآلام وتحمل نزيف الدماء، أي بتبلدنا المتعاظم؛ فقد أصبح العنف والدم والقتل حدثاً يومياً «طبيعياً» وسيزداد هذا «التطبيع» وسيتم رص المزيد من الكلام عن بقاء مصر مقارنةً بسوريا والعراق والمؤامرات التي لن تركعنا والمكيدة الصهيوماسوأمريكية، مزيد من الكلام المبتذل، الهراء في أسواق الرطانة الفارغة والعهر والهذر اللغويين.
كاتب مصري


المقال كاملا من المصدر اضغط هنا


Rim



from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2JSEJos
via IFTTT

Related Posts

0 تعليق على موضوع "حين يبتذل الكلام… الإرهاب يضرب من جديد"

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel