
العراق: البرامج الحكومية وغياب القضايا الجوهرية

تحدثنا في مقال سابق عن البرامج الحكومية في العراق التي ظلت مجرد مدونات إنشائية لا يقرأها أحد! وإلى أن البرنامج الحكومي للسيد عادل عبد المهدي بشكل خاص، والذي حصل بموجبه على الثقة في الأسبوع الماضي، قد جاء مفرطا في عموميته، وإنشائيته، وأنه قد خلا من أي إشارة إلى القضايا الجوهرية والخلافية والتي تحولت الى مسائل الحساسة ومزمنة وقد فشلت الحكومات المتتالية في التعاطي معها!
لقد اشترط الدستور العراقي ان يقدم رئيس مجلس الوزراء المكلف «المنهاج الحكومي» على مجلس النواب، كما أشترط الدستور حصول هذا «المنهاج» على الثقة لتمرير مجلس الوزراء. وقد كرر النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي هذه الشروط، فضلا عن تأكيده على إحالة البرنامج الحكومي إلى لجنة خاصة يرأسها أحد نائبي رئيس المجلس، لإعداد تقرير يقدم للمجلس قبل التصويت عليه. ولو راجعنا الجدول الزمني لما حدث، سنكتشف أن المنهاج الحكومي تم تقديمه إلى مجلس النواب قبل يوم واحد من جلسة التصويت على الحكومة والمنهاج معا! وأن اللجنة المشكلة لم تجتمع سوى اجتماع واحد صباح يوم جلسة التصويت 24 تشرين الأول/ أكتوبر لدراسة المنهاج وتمريره! وهو ما يثبت أن لا أحد في العراق يتعامل مع المنهاج/ البرنامج الحكومي بجدية، وأنه مجرد إجراء شكلي لتمرير الحكومة التي تحظى بتوافق سياسي مسبق لا علاقة له بالبرنامج الحكومي المفترض بأي حال من الاحوال!
والمفارقة هنا، ان المنهاج الحكومي الذي قدمه السيد عادل عبد المهدي، أشار صراحة إلى أنه يمثل ما أسماه «الإطار العام» الذي سيفصل، وفقه، البرنامج الحكومي بخططه المحددة لكل وزارة، جداوله الزمنية، وصولا لتحقيق الاهداف المرسومة. وإلى أنه سيطلب من الوزارات كافة دراسة بياناتها لتوضع ضمن برنامج وزاري تفصيلي ينطلق من هذا المنهاج! وهو ما يعني أن السيد عادل عبد المهدي يميز تمييزا واضحا بين المنهاج الحكومي العمومي الذي قدمه، والبرنامج الحكومي التفصيلي الذي سيوضع لاحقا! ولكن المنهاج نفسه، في موضع آخر، يعرف البرنامج الحكومي أنه «خارطة الطريق للحكومة، والوثيقة الرسمية التي تعبر عن توجهاتها وسياساتها العامة، ويحدد اولوياتها في ضوء المحددات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية» وأن هذا البرنامج يأتي «تنفيذا للمادة الدستورية التي توجب على رئيس مجلس الوزراء المكلف عرض «المنهاج الحكومي» لنيل الثقة! وهو ما يضعنا أمام معضلة التوحيد بين المنهاج والبرنامج الحكومي وعدم التمييز بينهما! وهذا الفهم هو الذي حكم الحكومات السابقة دون أي استثناء! ففي النهاية الحكومة ملزمة بما تم التصويت عليه في مجلس النواب، وليس بالوثائق التي ستقدمها كل وزارة منفردة حول برنامجها! وهو ما يؤكد حقيقة شكلية المنهاج/ البرنامج الحكومي، وعدم جدية التعاطي معه!
مجلس النواب نفسه قد منح الثقة لهذا المنهاج/ البرنامج، دون الالتفات الى ما جاء فيه، بل وأكاد أجزم أن 90٪ من النواب الذين صوتوا عليه لم يطلعوا عليه أصلا!
ثم تتحدث الفقرة نفسها عن البيشمركة التي لا ذكر لها في الدستور العراقي، بل وردت بصيغة «حرس الإقليم»! بأنها جزء من القوات المسلحة، على الرغم من معرفة الجميع بطبيعة العلاقة الإشكالية بين الطرفين، استمرت طوال السنوات الماضية! لاسيما ان النص الدستوري يتحدث عن حرس الإقليم بوصفه من اختصاصات حكومة الإقليم حصرا (المادة 121/ خامسا).
ولكن المنهاج نفسه يعود مرة أخرى ليميز بينهما عندما يتحدث عن «ايلاء أهمية خاصة للاستمرار في بناء القوات المسلحة والحشد الشعبي والبيشمركة»، فضلا عن «بقية القوى المتصدية للإرهاب»! من دون ان ينتبه إلى التناقض الذي يقع فيه بسبب تعمده إغفال الإشكاليات الجوهرية التي تتعلق بالعلاقة بين هذه الاطراف، والتي كانت طوال السنوات الماضية موضع خلافات سياسية جدية!
شاهد أيضا
وفي إطار الأمن أيضا، يتحدث المنهاج عن بناء «قوة امنية قضائية قادرة على ضبط النظام العام وتنفيذ القوانين» دون الانتباه إلى مسألة الفصل بين السلطات التي يعتمدها الدستور العراقي!
ويشير المنهاج الحكومي ايضا الى العمل على «التخلص من مفهوم الأرض الاميرية الموروث من النظم العثمانية السابقة، وملكية الدولة بشخص وزارة المالية، وبقية الوزارات لمعظم أراضي البلاد»، والعمل على «توزيع الأراضي بأسعار رمزية أو حتى مجانية عبر احياء مفهوم الأرض لمن أحياها»! وهذا يعني إعادة صياغة علاقات الملكية التي حكمت الأراضي الأميرية في العراق طوال عقود من الزمن، مع ما كل ما يستتبع ذلك من إشكاليات تتعلق بتوزيع هذه الأراضي، والآليات التي تحكم ذلك، في بلد يشهد انقساما مجتمعيا حادا، وصراعا على هذه الأراضي! وهو ما يمكن أن يضيف عامل صراع آخر على ملكية الأرض ويفاقم الحالة القائمة حاليا، خاصة وأن الكثير من الصراعات ذات التمظهرات القومية أو المذهبية القائمة في العراق اليوم تقوم أساسا على الصراع من اجل الاستحواذ على هذه الأراضي!
ويتحدث المنهاج عن خصخصة القطاع العام بلغة أخرى أكثر حيادية! من خلال الحديث عن «تحويل الأصول الجامدة إلى أصول متحركة وعرض المنشآت المتوقفة او الخاسرة وطرحها للمشاركة والاستثمار أو البيع للمواطنين العراقيين»! بشرط «تشغيلها واستيعاب العاملين المنتجين فيها»! على الرغم من أن موضوع القطاع العام في العراق، والإشكاليات المتعلقة به، لا يمكن معالجته بأسطر في منهاج حكومي مفترض، خاصة وأن هذا الموضوع يتعلق بمئات الآلاف من العاملين في هذا القطاع الذين لا يمكن استيعاب الغالبية العظمة منهم في حال خصخصة هذا القطاع!
لسنا بصدد التحليل التفصيلي للمنهاج/ البرنامج الحكومي بكل تأكيد، بل تعمدت فقط إيراد بعض الإشارات لإثبات شكلية ما جاء فيه، وعدم تفطن أحد الى ثغراته، بدليل ان مجلس النواب نفسه قد منح الثقة لهذا المنهاج/ البرنامج، دون الالتفات الى ما جاء فيه، بل وأكاد أجزم ان 90٪ من النواب الذين صوتوا عليه لم يطلعوا عليه أصلا!
كاتب من العراق
المقال كاملا من المصدر اضغط هنا
The post العراق: البرامج الحكومية وغياب القضايا الجوهرية appeared first on بتوقيت بيروت.
from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2DgvX3f
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "العراق: البرامج الحكومية وغياب القضايا الجوهرية"
إرسال تعليق