
غزة… نظرة للمدى البعيد

على إسرائيل أن تعطي الأولوية لمصالحها بعيدة المدى على حساب المصالح قصيرة المدى في الساحة الفلسطينية، في نظر الجمهور الفلسطيني. وعليه، فإن عليها أن تبلور غاية مشتركة مع السلطة الفلسطينية، ومع مصر وجهات الاختصاص في الساحة الدولية، تشترط المساعدة لغزة عبر قناة السلطة الفلسطينية. والغاية المشتركة هي تخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع وتنمية البنى التحتية بشرط إعادة حكم السلطة إلى القطاع ـ المصدر).
نشب التصعيد الأخير بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة (11 ـ 12 تشرين الثاني) في ظل التقدم في المساعي المتواصلة لوضع تسوية تهدئة بين الطرفين. وشهد سلوك إسرائيل وحماس في هذا الحدث على الرغبة المتبادلة للسعي إلى تفاهمات (وكلاهما يرفض اصطلاح التسوية، لأنه يفسر كاعتراف متبادل)، تتضمن وقفاً للنار وتسهيلات ذات مغزى في الإغلاق على قطاع غزة. الانطباع هو أن إسرائيل وحماس على حد سواء غير معنيتين بدفع الدفع الذي تجبيه الحرب والتي في نهايتها عودة إلى نقطة البدء.
وإلى ذلك، تتشكل قواعد اللعب بشكل دينامي. الاشتباك بين رجال حماس والقوة العسكرية الإسرائيلية التي عملت في خانيونس استغله قائد حماس في القطاع يحيى السنوار كي يثبت لمنتقديه بأنه لم يترك طريق المقاومة المسلحة وليوضح لإسرائيل في الوقت نفسه بأن حماس لن تتجلد على نشاط عسكري إسرائيلي في أراضي القطاع برعاية تفاهمات وقف النار. وعكس قرار حماس إطلاق صلية كثيفة من الصواريخ على إسرائيل ليومين بعد الاشتباك تقدير حماس بأن هناك حاجة إلى ضربة قوية وأليمة لإسرائيل، ولكن محدودة في مدى الصواريخ، ما يسمح بالعودة إلى تفاهمات التهدئة. أما الرد الإسرائيلي فقد كان قاسياً، ولكنه محسوب مع ذلك. والدليل على ذلك كان عدد القتلى المتدني نسبياً في قطاع غزة في أعقاب أعمال القصف.
إن تسوية التفاهمات التي تسعى إليها مصر تتشكل من ثلاث مراحل أساسية: الأولى ـ وقف نار طويل مقابل تسهيلات في الإغلاق؛ الثانية ـ إعمار القطاع؛ الثالثة ـ عودة حكم السلطة الفلسطينية بشكل تدريجي إلى القطاع. وجاء حدث التصعيد الأخير في ظل تحقيق المرحلة الأولى: حماس قلت العنف على الجدار؛ إسرائيل وسعت مجال الصيد، وسمحت بإدخال الوقود بتمويل قطري، وسهلت عبور البضائع إلى القطاع. قطر، بإقرار من إسرائيل أدخلت إلى القطاع 15 مليون دولار لدفع رواتب موظفي حماس. ومصر أبقت على معبر رفح مفتوحاً أمام الأشخاص والبضائع. أما تنفيذ صفقة إعادة جثماني الجنديين والمفقودين فسيكون الظن الشرط للتقدم من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، التي ستتضمن مشاريع بنى تحتية بهدف إعمار غزة وخلق عشرات آلاف أماكن العمل، بتمويل الأسرة الدولية، ويحتمل أيضاً إقامة معبر بحري بين غزة والقطاع.
من الأفضل لإسرائيل أن يتم الإعمار من خلال السلطة كي تجني هي لا حماس الثمار
لا يمكن أن نعرف أين ستصل هذه التفاهمات، وهل ستنضج إلى تسوية تطبق بكل مراحلها. ومع ذلك، يمكن التقدير بأن هذه مسيرة حساسة، وفي حالة عدم لمس التقدم على مدى الزمن وعدم نشوء تغيير هام في الواقع الغزي، فإن الساحة ستتدهور، آجلاً أم عاجلاً، إلى مواجهة عنيفة بين حماس وإسرائيل. فقيادة حماس، التي وعدت سكان القطاع بما لا يقل عن رفع الحصار، لن تصمد على مدى الزمن أمام الضغوط الشديدة التي تمارس عليها ومواجهة الانتقاد ضدها على الثمن الدموي الذي دفعه مئات الفلسطينيين في التظاهرات على الجدار في الأشهر الأخيرة. وبالمقابل، في الساحة السياسية في إسرائيل تنطلق أصوات ترفض كل فكرة التفاهمات التي يمكن أن تفسر كتسوية مع حماس، وتدعو إلى حملة عسكرية واسعة النطاق في القطاع. ذروة الانتقاد في استقالة وزير الدفاع ليبرمان من منصبه، على خلفية ما أسماه «استسلام للإرهاب».
المعاني للساحة الفلسطينية
حسنت حماس في السنة الأخيرة وضعها الاستراتيجي حيال إسرائيل، والسلطة الفلسطينية والأسرة الدولية. وذلك بفضل السياسة التي يتصدرها يحيى السنوار منذ انتخابه في منصب رئيس القيادة السياسية في القطاع. فقد عرض السنوار خطة سياسية وغير، حالياً، طبيعة الكفاح ـ من التشديد على الجانب الوطني ـ الديني، إلى التركيز على المستوى المدني ـ الإنساني. ففي مقابلة منحها في تشرين الأول لـ «يديعوت احرونوت» قال: «… ما أريده هو إنهاء الحصار». تشهد هذه الأقوال على رغبة في الحرص على رفاه الجمهور في القطاع، من أجل الحفاظ على القوة السياسية لحماس في القطاع بشكل خاص وفي الساحة الفلسطينية بشكل عام. في أعقاب تغيير هذا النهج تغير أيضاً طريق المقاومة. فقد استبدل بالنار الصاروخية بمسيرات جماعية على الجدار وإطلاق البالونات والطائرة الحارقة إلى الأراضي الإسرائيلية. وبالتوازي، ومن أجل الحفاظ على صورتها كقائدة المقاومة الفلسطينية، تحرص حماس على الإيضاح بأن الإنجازات ليست نتيجة الحوار مع إسرائيل، بل نتيجة الاستعداد لممارسة القوة، ضمن أمور أخرى استناداً إلى التفاهمات التي تحققت مع مصر،و قطر والأسرة الدولية، والنابعة من ضغط التظاهرات على الجدار.
شاهد أيضا
رغم أن لإسرائيل ولمصر مصلحة أساسية مشتركة في إسقاط حكم حماس في غزة وعودة حكم السلطة الفلسطينية إلى القطاع، فقد قررتا تقديس التهدئة في المدى القصير، وهما غير مستعدتين لاحتمال المخاطر التي ينطوي عليها التصعيد والتدهور إلى معركة عنيفة كنتيجة لاستمرار الضغط على حماس. يتبين أنه بخلاف الماضي، لا ترى مصر اليوم في المصالحة في الساحة الفلسطينية شرطاً ضرورياً لتحسين الوضع في قطاع غزة، ومستعدة لأن تتوصل إلى تفاهمات مع حماس حتى دون مشاركة السلطة. ومع ذلك، تفهم مصر بأنه في مرحلة تنفيذ المشاريع المدنية في القطاع ستضطر إلى السلطة الفلسطينية، بكونها القناة لنقل المساعدات والتبرعات من الأسرة الدولية، ولهذا فهي تعكف بالتوازي على تحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية. أما إسرائيل، فباستعدادها الوصول إلى تفاهمات مع حماس في ظل تجاوز السلطة الفلسطينية، فتشهد عملياً على أنها لا ترى في السلطة شريكاً في أي تسوية. كما يشهد هذا الاستعداد على أن إسرائيل تسعى إلى الهدوء في ساحة غزة بكل ثمن تقريباً، بدعوى أن غزة هي ساحة ثانوية ويجب تركيز القوى والجهود على الساحة الشمالية ـ سوريا ولبنان ـ بصفتها ساحة أساسية. بينما في الخلفية تقارير عن النشر القريب للخطة السياسية الأمريكية، والتي أعلن الفلسطينينون منذ الآن عن نيتهم رفضها، وكذا شائعات عن أن هذه ستركز بداية على حل مشكلة غزة. تدير السلطة الفلسطينية الكفاح على قوتها ومكانتها في عدة ساحات بالتوازي ـ حيال إسرائيل، وحيال حماس، وحيال مصر والعالم العربي، وحيال الأسرة الدولية.
توصيات لسياسة إسرائيل
قطاع غزة أقليم يعيش أزمة اإسانية وتحكمه منظمة معادية لإسرائيل، دون حل متوفر لهذا الواقع. بغياب حل، فإن السياسة المطبقة عملياً هي منع التعاظم العسكري لحماس وممارسة الضغط من أجل خلق ردع يمنعها من استخدام القوة، إلى جانب تحديدها كعنوان مسؤول عما يجري في القطاع في ظل الاعتراف بحكم الأمر الواقع بحكمها في المنطقة. تتمسك إسرائيل بسياسة الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، والرامية إلى تقليص التأثير السلبي للقطاع على الضفة، ضمن أمور أخرى انطلاقاً من التقدير بأن ليس في قدرة السلطة الفلسطينية استئناف تواجدها وحكمها في القطاع. يخدم هذا النهج الموقف الإسرائيلي الحالي في أنه لا شريك في الجانب الفلسطيني، ولا يمكن التوصل معه إلى اتفاق سياسي شامل، وتحديداً تنفيذه.
تعلن إسرائيل على الملأ بأن لا مصلحة لها في حرب في غزة، وأنها معنية بتهدئة طويلة المدى. في تصريحات ألقاها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أثناء زيارته إلى باريس، قبل التصعيد الأخير، صرح بأنه «لا يخاف الحرب ولكن يريد منعها حين لا تكون ضرورية»، وقدر بأن حرباً أخرى ستعيد إسرائيل إلى الوضع إياه الذي كان فيه بعد حملة «الجرف الصامد».
وبالمقابل، يدعي مسؤولون كبار في الساحة السياسية والكثيرون في الجمهور الإسرائيلي بأنه يجب الخروج إلى عملية عسكرية واسعة مع حماس وتعزيز الردع الإسرائيلي. عملياً، توجد إسرائيل وحماس في شرك مشابه ـ من جهة هما غير معنيتين بجولة قتالية تجبي منهما أثماناً وتعيدهما إلى نقطة البدء، ولكنهما لا تريدان أيضاً السماح للطرف الآخر بتحقيق إنجازات واتخاذ صورة من يدير مفاوضات مع العدو.
على إسرائيل أن تعطي الأولوية لمصالحها بعيدة المدى، على حساب المصالح قصيرة المدى في الساحة الفلسطينية. من الأفضل لإسرائيل أن يتم إعمار القطاع من خلال السلطة كي تجني هي وليس حماس ثمار الإعمار في نظر الجمهور الفلسطيني. وعليه، فإن عليها أن تبلور غاية مشتركة مع السلطة الفلسطينية، ومع مصر وجهات الاختصاص في الساحة الدولية، وتشترط المساعدة لغزة عبر قناة السلطة الفلسطينية. والغاية المشتركة هي تخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع وتنمية البنى التحتية بشرط إعادة حكم السلطة إلى القطاع.
وسيكون العمل المشترك رافعة ضغط هامة على حماس ويقيد قدرتها على المناورة. لا تزال الأسرة الدولية تبدي استعداداً للمساعدة في مشاريع في غزة، هدفها تحسين البنى التحتية وخلق أماكن عمل ورفاه اقتصادي لسكانها. لإسرائيل مصلحة بمشاركتها، بل وبقيودها، وذلك لأن مشاركة قوة دولة في القطاع ستشكل عامل لجم لحماس وتعظم ثمن الخسارة لها إذا ما اختارت مرة أخرى المقاومة العنيفة. على إسرائيل أن تساعد مصر في مساعي المصالحة الفلسطينية الداخلية، وذلك بهدف تعزيز سيطرة السلطة في غزة كجهة مسؤولة وتحديدها كعنوان لتقديم التسوية السياسية.
كيم لفي واودي ديكل
المقال كاملا من المصدر اضغط هنا
Essa
from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2PGBAhS
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "غزة… نظرة للمدى البعيد"
إرسال تعليق