
مسيحيو السودان… هل تصلح الحكومة الانتقالية ما أفسدته الإنقاذ؟


على الرغم من الضير الواسع على مسيحيي السودان جراء ممارسات النظام السابق، إلاّ أنّ النظام لم يباعد بين المسلمين والمسيحيين الشماليين، مثلما فعل مع المسيحيين الجنوبيين في سنوات الهوجة الأيديولوجية وفقه الجهاد في بدايات عهده. فغالبية منسوبي الإنقاذ هم ممن حاربوا في جنوب السودان على أساس ديني وأيديولوجي، ومنهم من يكنُّ الكثير من العداوة والبغضاء للجنوبيين بشكلٍ عام على أثر الحرب، نسبة لثأرات قديمة، خصوصاً ممن لقي أقرباؤهم حتفهم في تلك الحرب. فقد قرَّب النظام السابق مسيحيي الشمال من الأقباط لأسبابٍ تجاريةٍ واقتصادية، ولم يتعرضوا لمضايقات مثلما تعرَّض الجنوبيون. وبينما لم تُمنع أجراس الكنائس، إلَّا أنَّه كان يجري التضييق في أعياد الميلاد، وتُمنع مكبرات الصوت في المناسبة ذاتها، كما كانت تُمنع مشاركة بقية المواطنين السودانيين في الأعياد المسيحية.
ذاكرة التمييز
وبحسب إحصاءات الحكومة السابقة بعد انفصال الجنوب، أصبح المسيحيون يشكّلون ثلاثة في المئة فقط من عدد سكان السودان البالغ 40 مليون نسمة، ولكن إحصاءات أخرى تفيدُ بأن العدد الحقيقي أكبر بكثير، وغالبيتهم من طوائف الأقباط والكاثوليك والأنغليكان. ولم تُفلح محاولات القساوسة من قبل في خلق انفراجٍ في الحريات، على الرغم من أن بعضاً منهم تربطهم علاقاتٍ مع الحكومة السابقة. أما الوضع بالنسبة إلى المسيحيين الجنوبيين، فتدخل فيه كثيرٌ من التعقيدات ما بين عنصرية عِرقية وعنصرية دينية وترسُّبات قَبلية.
شرعنة العنف
شاهد أيضا
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما شجَّعت الروح الانفصالية والممارسات التي اتبعتها الحكومة السابقة، بعضاً ممن كانوا ينادون بانفصال جنوب السودان على ازدياد نبرتهم بعد ذلك. ومن الحوادث التي ألهبت غضب السودانيين بمختلف دياناتهم، ما أشعله أهل الفتنة الدينية في ضاحية الجريف غرب بالعاصمة الخرطوم عام 2012، أي بعد انفصال الجنوب بعام واحد، مستغلين طوفان المشاعر بعودة مدينة هغليغ المتنازع عليها بين شمال السودان وجنوبه، إلى السودان الشمالي.
وقامت مجموعة من المهووسين دينيّاً بحرق وتخريب ممتلكات كنيسة يتبعها مجمع سكني كامل بقاطنيه ومساكنه ومدارسه وأثاثاته. كان ذلك بعد أحداثٍ وتفلتاتٍ واعتداءاتٍ تبعت إعلان الحكومة انتهاء مدة الإقامة المسموح بها للمسيحيين الجنوبيين. ولأنَّ السودان قبل حكومة الإنقاذ كان مفتوحاً لأهل الديانات المختلفة، فإنَّ النظام السابق لم يجرؤ على ذكر الديانة مع قرارات الإقامة، وعلى الرغم من ذلك كانت قراراته بمثابة شرعنة للعنف وضيقٍ بالاختلاف، ونزوعٍ صوب محو الآخر وملءٍ للنفوس بالتعصُّب.
هذه الحادثة استثارت الرأي العام، ولكن منذ الساعات الأولى، عملت الحكومة على الالتفاف على القضية وتحويلها إلى نزاعٍ على ملكية أرض بين سكان الحي والمجمع. ما حدث كان توظيفاً للكنيسة والزجِّ بها في هذا الصراع، وتحويل القضية إلى نزاعٍ حول ملكية أرض في ذلك التوقيت الذي أعقب القرارات الحكومية، كان بمثابة مبرَّر لإضفاء الشرعية على ممارسة العنف ضد المسيحيين الجنوبيين.
موجة عدائية متواصلة
الحادثة الأخرى كانت الموجة العدائية المتواصلة التي انتهجها بعض النفصاليين وعلى رأسهم خال الرئيس السابق الطيب مصطفى، الذي تسلّم مناصب قيادية عدّة في الدولة، آخرها حزب باسم “منبر السلام العادل” ورئاسة تحرير صحيفة حكومية. لم يخفِ هؤلاء كراهيتهم للجنوبيين المسيحيين وزادت وتيرة هذه الكراهية عند خال الرئيس بعد مقتل ابنه خلال إحدى المعارك فى جنوب السودان، وقد ذهب من الشمال مقاتلاً ضمن جماعات تابعة للحزب الحاكم. ومنذ ذلك اليوم وهو يردِّد بأن من قتلوا ابنه “لا يساوون قيمة العيار الناري الذي أصابوه به”. كما قال إنه “إذا حصل الانفصال، سيقوم مواطنو الشمال السوداني بذبح الخرفان والثيران ونحر الإبل بأعداد كبيرة فرحة بهذا اليوم السعيد”، وإنه سيجعل هذا اليوم “مثل يوم ذي قار”. ولكن خذله السودانيون، فقام وحده بذبح ثورٍ أسود وشاركته مجموعة لطخت أياديها المرفوعة بالدماء كرمزية خاصة للتخلُّص من السودان الزنجي والإبقاء على السودان العروبي.
عودة الترانيم
وكانت مشاركات المسيحيين السودانيين في انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، علامة فارقة في أحداث انتفاضات عدّة. ولا يزالون يتذكرون حرمانهم من تراخيص إقامة احتفالاتهم بـ”الكريسماس” وعيد القيامة وغيرها من المناسبات.
وبعد الإطاحة بالبشير، ارتفعت أصوات الترانيم، احتفالاً بعيد الميلاد المجيد، الأول بالنسبة إليهم، بعد سقوط نظامه. ثم جاء قرار الحكومة الانتقالية بإعلان الأمانة العامة لمجلس الوزراء إعادة العمل بعطلة “الكريسماس”، بصورة رسمية وعامة في البلاد. فللمرة الأولى منذ تطبيق قانون النظام العام، يتشارك السودانيون في هذه العطلة، وخرج المسيحيون بمختلف طوائفهم من حالة الانزواء التي لم يكن يخفِّف منها إلاّ اندماجهم الاجتماعي، حتى إنَّ الاعتقاد السائد هو ثقة المجتمع العميقة في أمانة وصدق المسيحيين الأقباط، لدرجة تفضيل التعامل التجاري معهم عن غيرهم. كما تلقوا التهاني من المجلس السيادي والحكومة الانتقالية، وقال رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك “أؤكد أن سودان ما بعد الحراك يحترم التنوع ويمكّن جميع المواطنين السودانيين من ممارسة حياتهم في بيئةٍ آمنةٍ وكريمة”. إضافةً إلى المشاركة الشعبية التي لم تنقطع. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فالمجلس السيادي المكون من أحد عشر عضواً، يضم وللمرة الأولى امرأة مسيحية هي رجاء نيكولا.
الوطن كان حكراً على المنتمين إلى حكومة الإنقاذ، غذّوه بالأحقاد والثأر والعنصرية وأدخلوا المجتمع المتسامح في نزاعاتهم السياسية ليتحول الصراع بين مسلمين ومسيحيين من جهة، وبين المسلمين في ما بينهم من المنتمين إلى الحزب الحاكم وغيرهم من جهةٍ أخرى. وعندما خشي ضحايا التمييز الديني فروا بهجرتهم إلى أستراليا وكندا وغيرها، ليسترجع من بقي منهم، ذكريات رحيل ذوويهم بقولهم إن “حكومة الإنقاذ مزَّقت أسرنا بأكملها وحياتنا قد لا تعود إلى سابق عهدها ولكنّنا متفائلون”.
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
from WordPress https://ift.tt/2QBFrKK
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "مسيحيو السودان… هل تصلح الحكومة الانتقالية ما أفسدته الإنقاذ؟"
إرسال تعليق