-->
توماس سانكارا.. «جيفارا الأسود» الذي قتله حلم «اليوتوبيا» الأفريقية

توماس سانكارا.. «جيفارا الأسود» الذي قتله حلم «اليوتوبيا» الأفريقية

في غرب أفريقيا، وبين مالي شمالًا، والنيجر شرقًا ، وكل من بنين، وتوغو، وغانا، وساحل العاج جنوبًا، وساحل العاج ومالي غربًا، تقع جمهورية بوركينا فاسو التي يقترب عدد سكانها من 20 مليون نسمة، وتبلغ مساحتها نحو 274 ألف كيلومتر مربع، والتي ظلت حتى أغسطس (آب) 1960 إحدى البلدان القابعة تحت نير الاستعمار الفرنسي، في هذه البلاد وُلد «جيفارا الأفريقي».

ميلاد حلم

ولد توماس سانكارا عام 1949، لوالدين من الرومان الكاثوليك، انتمى والده إلى عرقية الموسي أكبر إثنيات البلاد، لكن انتماء أمه إلى عرقية الفولاني جعل سانكارا في أسفل الهرم الاجتماعي للموسي، كان أبوه جنديًّا في الجيش الفرنسي، اشترك في القتال إلى جانب الفرنسيين خلال معارك الحرب العالمية الثانية، وقد شكلت هذه النشأة نقطة البداية بالنسبة لفلسفة سانكارا حول فرنسا والقوى الاستعمارية بشكل عام، إذ كان منذ المرحلة الثانوية على اتصال بمجموعة من أهل البلاد المناهضين للـ«كولونيالية» الفرنسية.

أراده والداه أن يصبح قسيسًا، لكن هوى الشاب المفعم بالحيوية كان مع البندقية، فالتحق بالجيش في سن 19، ليتم إرساله بعدها بعام واحد إلى مدغشقر لتلقي التدريب، وهناك كان سانكارا شاهدًا على ثورة الطلاب والعمال التي أطاحت بالرئيس والحكومة في مدغشقر، ليتفتح ذهنه مبكرًا على النقاشات والبرامج السياسية المتنوعة، ويمكن القول إن الانتفاضة في مدغشقر قد شكلت إلى درجة كبيرة وعي الضابط الشاب التواق منذ نعومة أظفاره إلى عالم يسوده العدل والحرية.

Embed from Getty Imageswindow.gie=window.gie||function(c){(gie.q=gie.q||[]).push(c)};gie(function(){gie.widgets.load({id:’TOlnPqGRTY9QCdKewLH_ng’,sig:’wTCzTdosPbEugXe6TFPaixIBaKUJyx6esKPhqUeQjcg=’,w:’594px’,h:’389px’,items:’151357050′,caption: true ,tld:’com’,is360: false })});

توماس سوكارنو

وفي عام 1972، سافر سانكارا إلى فرنسا ليتلقى تدريبًا على القفز بالمظلات، وهناك احتك بتيارات اليسار الفرنسي التي شحذت نقاشاتها تفكيره إلى مدى أبعد، كما تأثر تأثرًا كبيرًا بالكتاب اليساريين، وفي مقدمتهم الآباء الروحيون: كارل ماركس، فلاديمير لينين، بعد كل ذلك، يمكن القول إن سانكارا قد عاد إلى بلاده شخصًا مختلفًا، حاملًا أيديولوجيته بيمناه، وسلاحه بيسراه، وسيذيع صيته بين العسكريين والمدنيين حين يبلي بلاءً حسنًا في الحرب الحدودية التي اندلعت مع مالي عام 1974، وهي الحرب التي سيتحلى سانكارا لاحقًا بالشجاعة الكافية ليصفها بأنها كانت «غير عادلة».

في نوفمبر (تشرين الثاني) 1980، غرقت البلاد في موجة من الاحتجاجات اعتراضًا على سياسات نظام الجنرال أبي بكر سانغولي لاميزانا منذ عام 1966، انقلب الجيش في الخامس والعشرين من الشهر نفسه على سانغولي، وتولي العقيد سايي زيربو رئاسة البلاد، صار لسانكارا كلمة مسموعة في النظام الجديد، إذ عين وزيرًا، لكنه سرعان ما استقال بسبب خلافات اندلعت بين أجنحة اللجنة العسكرية الحاكمة، الخلافات التي استفحلت عام 1982 فلم يجد سانكارا بدًّا من حسمها بالقوة في نوفمبر ليأتي بالطبيب جان- بابتست أويدراوغو على رأس السلطة، ويصير سانكارا رئيسًا للوزراء في النظام الجديد.

لم يكن أويدراغو يتمتع بالحنكة السياسية، كما أن الخلافات سرعان ما اندلعت بينه وبين سانكارا ليغادر الأخير مقعد رئاسة الوزراء ويوضع تحت الإقامة الجبرية، ومجددًا ينجو سانكارا من بين أنياب السلطة، ويقود رفاقه في الجيش – وعلى رأسهم بليز كومباوري الذي سيصير فيما بعد الذراع اليمنى لسانكارا- انقلابًَا أطاح حكومة أويدراوغو، وتحررت سانكارا ليتبوأ مقعد رئاسة البلاد.

«نيوزويك»: لم يستطع المكلف الأول بقتله التنفيذ.. كيف قُتل تشي جيفارا؟

«أرض الرجال الشرفاء»

ملتزمًا على الدوام بارتداء الزي العسكري، وراسمًا ابتسامة واثقة على شفتيه، كان سانكارا يخطب للجموع المحتشدة، ويبث فيهم فلسفته التي تشربها عبر سنوات عمره الثلاثة والثلاثين قبل وصوله إلى الرئاسة، لم يكن سانكارا يفوت فرصة من غير أن يصب جام غضبه على الاستعمار، وكانت لديه قناعة صارمة بضرورة أن تحقق الدول الأفريقية «الاكتفاء الذاتي»، وأن تلتزم بإنتاج ما تستهلكه من سلع ومنتجات.

لكن الدين في شكله الحالي، الذي تسيطر وتهيمن عليه الإمبريالية، هو غزو منظم و بمهارة، لتصبح أفريقيا، ونموها، وتنميتها تتفق مع مستويات ومعايير غريبة عنا تمامًا، بحيث يصبح كل واحد منا عبدًا ماليًّا… يقولون لنا سددوا الديون. هذه ليست مسألة أخلاقية، وهي ليست أيضًا مسألة شرف مزعوم لسداده أو رفضه. *سانكارا في خطابه أمام القمة الأفريقية 1987 منتقدًا الديون

كان سانكارا – الذي لقبه البعض بـ«جيفارا الأفريقي»- ناقمًا على السياسات الاقتصادية «الإمبريالية» التي رأى أنها تستغل موارد القارة السمراء، فرفض إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولم يتحرج ذات مرة من مطالبة الدول الأفريقية بأن تتجاهل تمامًا الديون التي تدين بها للقوى الغربية، في إشارة إلى الاستغلال الذي تعاني منه أفريقيا من قبل الدول الأوروبية.

سنوات حكمه الأربع حافلة بالكثير مما يمكن أن يتذكره فقراء البلاد، وأهل الريف البوركيني على وجه الخصوص، فقد قد أمم الأراضي الزراعية، فنقل ملكيتها من الإقطاعيين إلى الفلاحين والمزارعين، وألغى الضرائب الريفية والإيجارات المحلية، وعمل على الحد من المجاعة بالاكتفاء الذاتي وبرامج الإصلاح الزراعي، وضاعف إنتاج البلاد من القمح، فضلًا عن برنامجه للتشجير، إذ أشرفت الدولة على زراعة أكثر من 10 ملايين شجرة لوقف التصحر المتزايد حينئذ في منطقة الساحل.

نحن ننتج ما يكفي لإطعامنا جميعًا، لكن – وبسبب افتقارنا إلى التنظيم- فنحن مضطرون إلى التسول للحصول على المعونة، واحسرتاه! إن هذه المعونة تغرس في نفوسنا موقف المتسولين. *توماس سانكارا

اهتم سانكارا كذلك بتوفير الخدمات والرعاية الصحية لمواطنيه، إذ ربطت البلاد بعضها ببعض عبر شبكات الطرق والسكك الحديدية، وأعطى أولوية للتعليم ولبرامج محو الأمية في البلاد، كما أولى اهتمامًا خاصًا لبرامج الرعاية الصحية، فجرى تطعيم أكثر من مليوني طفل ضد أمراض التهاب السحايا، والحمى الصفراء، والحبة، وفي عهد سانكارا، وتجاوبًا مع نداءاته، عمل أهالي كل قرية على بناء مستوصف طبي، كما أنشئت مئات المدارس بأموال الأهالي وجهودهم الخاصة.

بإمكاني سماع دوي صمت النساء. *سانكارا مدافعًا عن النساء في مؤتمر عام 1983

احتلت مسألة «حقوق المرأة» محورًا مركزيًّا من استراتيجية سانكارا، أولى الرجل المرأة في بلاده عناية خاصة، فسمح لها بتقلد أغلب الوظائف، بما فيها الوظائف داخل الجيش، وحارب ختان الإناث، ودعا الرجال إلى مساعدة النساء في أعمالهم اليومية، كما جعل من «يوم المرأة العالمي» احتفالًا رسميًّا في البلاد، وكان حريصًا على تعيين النساء في مناصب حكومية عالية.وكان يقول: «إن الثورة وتحرر المرأة يسيران معًا. نحن لا نتحدث عن تحرر المرأة كعمل من الأعمال الخيرية أو بسبب موجة من التعاطف الإنساني. بل إن حقوق المرأة هي ضرورة أساسية من أجل انتصار الثورة فالنساء نصف السماء».

سانكارا – الذي غير في عام 1984 اسم بلاده من «فولتا العليا» إلى «بوركينا فاسو» والتي تعني باللغة المحلية «أرض الرجال الشرفاء» في محاولة للقطيعة مع الماضي الاستعماري- ضرب بنفسه مثلًا يُحتذى به في الاستقامة والنزاهة، خفض الرجل راتبه إلى 450 دولارًا ما جعله أقل رؤساء العالم أجرًا، لم يكون سانكارا ثروة أبدًا، تعلم ولداه في المدارس الحكومية، وظلت زوجته تعمل في هيئة النقل، وباع سيارات «الليموزين» الفخمة التي اقتنتها الحكومات السابقة، ليكتفي هو ووزراؤه باستخدام سيارات «رينو 5»، الأرخص سعرًا في ذلك الوقت.

اغتيال الحلم

مثل كل حُلم رومانسي جميل جاءت لحظة النهاية سريعًا، وقد كانت نهاية سانكارا مفعمة بالإثارة كحياته، ومليئة بالتراجيديا والمفاجآت لمحبيه، القصة صارت مكررة إلى حد الملل، رفاق السلاح يقومون بثورة ما وقلوبهم ملؤها الحماس والطموح، يصعد زعيمهم إلى قمة الهرم، ثم ومع جريان نهر الزمن، تمارس السلطة غوايتها المعهودة على هذا أو ذاك، فيدب بينهم الخلاف لسبب أو آخر، الخلاف الذي يتصاعد ليصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم، والعداوة بين هذا النوع من الساسة لا تنهيها إلا الدماء عادة.

حين أموت، أتمنى أن يتذكرني الناس بوصفي شخصًا كانت حياته شيئًا ذا فائدة للبشرية. *سانكارا

على إثر خلاف اندلع، ثم احتدم بين سانكارا وبليز كومباوري (صديقه القديم، والرجل الذي ساعده في انقلابه/ ثورته قبل أربع سنوات وأتى به رئيسًا، وذراعه اليمنى في الحكم) اندلعت مواجهات في القصر الرئاسي بين حرس سانكارا والقوات الموالية لكومباوري، في الخامس عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1987، الذي عُرف بـ«الخميس الأسود»، نجح انقلاب كومباوري، وأعلن نفسه رئيسًا للبلاد، وقتل سانكارا في تلك المواجهات، لكن السلطات أعلنت في ذلك الوقت أن الوفاة كانت «طبيعية».

بقى كومباوري في السلطة 27 عامًا، سار خلالها على سيرة سانكارا بممحاة، وانقلب على الكثير من سياساته، وحين شاخت سلطته وبلغ حكمه من الكبر عتيًّا، وخرجت مظاهرات حاشدة ترفض محاولاته لتعديل الدستور وتمديد مدة حكمه، والتي نجحت في الإطاحة به من الرئاسة- كانت الجماهير حينها ترفع صور سانكارا وتهتف باسمه، وقد عادت روح سانكارا لترفرف في أجواء بوركينا فاسو، بعدما دشنت حركات شعبية وأحزاب تحمل اسمه، مع تصاعد المطالبات بإعادة فتح قضية موته وفحص رفاته للتعرف على تفاصيل أكثر عن كواليس عملية اغتياله.

Embed from Getty Imageswindow.gie=window.gie||function(c){(gie.q=gie.q||[]).push(c)};gie(function(){gie.widgets.load({id:’UoVOEqHxShtmvx7CreLt4g’,sig:’KR-v42ItPRtZsz1aip18Sd9AHO3kC7qMcTDNcC_fexc=’,w:’594px’,h:’415px’,items:’452734364′,caption: true ,tld:’com’,is360: false })});

بليز كومباوري

على الجانب الآخر، ثمة انتقادات توجه لسانكارا وطريقته في الحكم، فالبعض يراه ديكتاتورًا جاء بالسلطة عبر انقلاب عسكري، وقضى على المعارضين، وحظر النقابات، وضيق على حرية الصحافة، فضلًا عن إجبار الناس على العمل لتنفيذ المشروعات التنموية التي تقررها الدولة، إذ يعبر الحقوقي دافيد جوات عن تلك الفترة بالقول: «الناس لم يكونوا ملتزمين لأنهم أرادوا ذلك، بل لأنهم كانوا خاضعين للمراقبة والفحص. لم يكن هناك احترام لحقوق الإنسان»، ويردف قائلًا:«لدي مشاعر مختلطة ومتناقضة بشأن تلك الفترة».

«كاسترو» يموت على السرير.. بعد 600 محاولة فاشلة لاغتياله

The post توماس سانكارا.. «جيفارا الأسود» الذي قتله حلم «اليوتوبيا» الأفريقية appeared first on ساسة بوست.

, فريق العمل ,

رابط المقال من المصدر



from بانوراما – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2SoAjZz
via IFTTT

0 تعليق على موضوع "توماس سانكارا.. «جيفارا الأسود» الذي قتله حلم «اليوتوبيا» الأفريقية"

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel