
قضية خاشقجي وصراع النماذج في السياسة الدولية

منذ حوالي عقدين من الزمن، تبلورت أطروحات أساسية في دعم التحولات الديمقراطية في العالم، وأصبحت قضايا حقوق الإنسان محددا أساسيا في عدد من السياسات الدولية، ومنها على وجه الخصوص السياسة الخارجية الأمريكية والأوربية.
لكن هذا التحول لجهة المبادئ والمعايير القيمية في السياسات الخارجية الأمريكية والأوربية لم يصمد كثيرا أمام ديناميات السياسة، وبشكل خاص، التناقضات المفصلية مع المصالح الاستراتيجية. فأوروبا، بحكم تضخم هواجسها الأمنية، كانت الأسبق لتبني رؤية محافظة تغلب الأمن على ما عداها من الاعتبارات، بما في ذلك الاعتبارات القيمية، أما الإدارات الأمريكية، فكانت ـ حسب تقديرات أهم مستودعات التفكير عندها ـ تأخذ بالحسبان التناقض المفصلي بين دعم التحولات الديمقراطية في العالم العربي، وبين صعود نخب غير حليفة أو صعود نخب لا تتواءم مع مصالحها الاستراتيجية. ولذلك، وعلى الرغم من تغير السياسات الأمريكية من دعم الأنظمة الشمولية الاستبدادية، إلى دعم التحولات الديمقراطية لحظة الربيع العربي، إلا أنها اختارت في التعاطي مع دول الخليج، وبشكل خاص السعودية والبحرين، نفس محددات الموقف القديم الداعم للسلطوية، وانتهت مع الحالة المصرية إلى إعطاء الشرعية للانقلاب على مخرجات العملية الديمقراطية، مع سابق إعلانها عن دعم التحولات الديمقراطية، وذلك مراعاة منها للمصالح الإسرائيلية الضاغطة.
خلاصة الموقف، أن الإدارة الأمريكية والتجربة الأوروبية على السواء، فشلتا في بناء نموذج مبدئي ينتصر للدمقرطة وحقوق الإنسان في السياسات الدولية، بل دلت مؤشرات عدة على تحول هذه القيم إلى أدوات استثمار سياسي من قبل أمريكا وأوروبا، تستعمل كآليات للضغط والابتزاز السياسي لتكوين مجال دولي له قابلية لهدر مفهوم السيادة لجهة توسيع وتمديد للمصالح الأجنبية.
بلغة المواقف، فالإدارة الأمريكية اليوم تواجه معادلة دقيقة، لا تستطيع فيها الموازنة بين مصالحها التي لا يتردد دونالد ترامب في تفصيلها بالدولار كل لحظة وحين، وبين التستر على جريمة بشعة تمس بالقانون الدولي، ليس لأن سياستها الخارجية فشلت في هذه النازلة في تعريف مصالحها، ولكن لأنها وضعت أمام النموذج التركي الذي يحاصرها باحتكار تفاصيل المعلومة من جهة، ويحاصرها بعد ذلك بمناعته من الارتهان لمنطق المصلحة في قضية تمس المبدأ والمعيار.
النموذج التركي محرج لغيره، وكاشف لهشاشة النموذج الأمريكي والأوروبي في الانتصار لحقوق الإنسان في السياسات الدولية
أوروبا، مثلها في ذلك مثل أمريكا، منقسمة في شأن علاقة قضية تصفية خاشقجي بقضية بيع السلاح للسعودية، ففرنسا، لا تتردد في رفض هذه العلاقة، والتأكيد بدلا عن ذلك، بأن قناعات بعض الدول الأوربية بشأن منع بيع السلاح للسعودية له علاقة بموقفها من حرب اليمن وليس بقضية خاشقجي، أي أن القضية بالتأويل الفرنسي لها علاقة بتقدير المصالح لا بالمبادئ والمعايير، وأنه لهذا الغرض لا يمكن لفرنسا أن تساير هذا المنطق، أما ألمانيا التي تبدو أكثر صرامة في الامتناع عن إتمام صفقة السلاح مع السعودية، فيعزو البعض ذلك إلى أن قيمة الصفقة تبقى محدودة ومقدورا على تعليقها. البعض يرى أن الإدارة الأمريكية تقع في الحرج بسبب ضغط الكونغرس وضغط الإعلام أيضا، وأنه لم يعد هناك من خيار سوى المضي إلى نهاية المسار في الضغط على السعودية لإظهار الحقيقة كاملة وبأسرع وقت ممكن، لكن، هذه القراءة، تلغي من حسابها دور تركيا في توفير المادة الأخلاقية والمبدئية والمعلوماتية للضغط على الإدارة الأمريكية، وأيضا الضغط على بقية النظم الغربية، لمخاطر مسايرة لغة المصالح وتجاوز القضية الحقوقية.
شاهد أيضا
النموذج التركي أصبح محرجا، لأنه انتصر في هذه القضية للعدالة، والعدالة فقط، ورسم في سبيل ذلك معادلة دقيقة، تنتصر للمبدأ والقيمة، دون أن يدفع في اتجاه الإضرار بعلاقاته الخارجية، فكسب بذلك تحسين علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وكسب من جهة ثانية ثقة المجتمع الدولي في صدقية تحقيقاته وإجراءاته والتزامه بمقتضيات القانون الدولي، ووضع المملكة العربية السعودية في الحرج الدولي دون أن يتسبب لحد الآن في الإضرار بعلاقاته الدبلوماسية معها، ولا مع أي طرف آخر يفترض مشاركته في هذه الجريمة.
قضية خاشقجي هي بالفعل قضية واحدة، لا تستطيع معها الجزم بأن تركيا في جميع النوازل المحتمل حدوثها في المستقبل، ستتعامل بنفس المنطق المنتصر للمبدأ، لكن، مع حجم القضية وبشاعة الجريمة، والوصمة السلبية التي يمكن أن تلحق بالقانون الدولي في حالة التستر على الجريمة والانتصار للغة المصالح، تجعل من النموذج التركي محرجا لغيره، وكاشفا لهشاشة النموذج الأمريكي والأوروبي في الانتصار لحقوق الإنسان في السياسات الدولية.
تقديري أن السياسة الأمريكية والأوروبية اليوم لا يحركها العقل المناور الذي يحاول البحث عن تركيب يضمن مصلحتها دون أن يظهرها في مظهر المتخلي عن حقوق الإنسان، ولكن يحركها خيار البحث عن ترتيب وضع ما بعد الاضطرار لإعمال المبدأ على حساب المصلحة والتغطية على الجريمة، ويمكن أن نقرأ الضغط الأمريكي والأوروبي لإنهاء حرب اليمن ضمن هذا الترتيب الواسع، الذي يمكن أن نرى في بعض تفاصيله قريبا تغييرا في بنية الحكم في المملكة العربية السعودية وإنهاء حكم محمد بن سلمان، وترشيح بديل آخر يرعى المصالح الأمريكية أكثر، ويتجنب الوقوع في مثل هذه الأخطاء المحرجة التي تضع الأصدقاء في ورطة تختبر فيها جدية اختياراتها المبدئية أمام النماذج الناشئة.
كاتب وباحث مغربي
المقال كاملا من المصدر اضغط هنا
Essa
The post قضية خاشقجي وصراع النماذج في السياسة الدولية appeared first on بتوقيت بيروت.
from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2zldOwI
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "قضية خاشقجي وصراع النماذج في السياسة الدولية"
إرسال تعليق