-->
الولايات المتحدة في اليمن: ما الأثخن من النفط؟

الولايات المتحدة في اليمن: ما الأثخن من النفط؟

الولايات المتحدة في اليمن: ما الأثخن من النفط؟

في مثل هذه الأيام، ولكن قبل سنتين، حين كان باراك أوباما في البيت الأبيض وجون كيري في الخارجية، طالبت الولايات المتحدة وبريطانيا بوقف لإطلاق النار في اليمن «خلال ساعات»؛ إذْ أنّ «الوقت قد حان لوقف إطلاق نار غير مشروط، والتوجه فوراً نحو طاولة المفاوضات»، كما قال كيري، من لندن، بحضور وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، والمبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ. وأمّا «الوقت» المقصود في تصريح كيري، فقد كان مقتل 140 يمنياً وجرح 525 خلال عملية قصف جوي سعودية على مجلس عزاء؛ وهو «الوقت» الذي نظر إليه ولد الشيخ من زاوية أخرى: كانت المحاثات بين أطراف الصراع قد بلغت مرحلة متقدمة، وبالتالي (ما لم يقله المبعوث الدبلوماسي) جاءت المجزرة السعودية لتقلب الطاولة، وتضرّجها بالدماء!
فما هو «الوقت»، اليوم، الذي يحثّ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ثمّ وزير الدفاع جيمس ماتيس، في عهد دونالد ترامب (الغارق حتى أذنيه في عقود الـ110 مليارات مع السعودية)، على الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، والدخول في مفاوضات متجددة خلال 30 يوماً من تاريخه؟ ليس دماء أبناء اليمن هذه المرّة، فالغارات السعودية لم تتوقف عن إراقتها منذ ابتداء عمليات «عاصفة الحزم» في نيسان (أبريل) 2015؛ بل هي، بالأحرى، دماء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، القتيل داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، بأوامر يصعب أن تصدر عن سلطة أقلّ من ولي العهد محمد بن سلمان شخصياً.
وأمّا المنطق وراء هذه المبادرة الأمريكية، الجديدة/ العتيقة في الواقع، فهو معادلة تجارية بالغة البساطة وعالية الذرائعية، لا تصدر هنا أيضاً عن مستوى أقلّ من الرئيس الأمريكي ذاته: لأننا لا نريد خسران عقود الـ110 مليارات، فلنجرّب إعلان النيّة على إبقاء السلاح المصدّر في صناديقه داخل المخازن السعودية، وليس هنا وهناك في أجواء اليمن وعلى أرضه؛ على مستوى القول والتصريح بادئ ذي بدء، وليس من باب الفعل بالضرورة. في عبارة أخرى، نمتصّ ما يمكن امتصاصه من غضب البعض في الكونغرس والرأي العام الأمريكي، على أعتاب الانتخابات النصفية، وعن طريق مبادرة قد لا تخرج عن حدود اللفظ والبلاغة، وقد تبقى حبيسة الثرثرة والإلهاء وحرف الأنظار…

والحال أنّ الإدارة أدرى بشعابها في الكونغرس وفي صفوف جمهور ترامب الوفيّ، بحيث أنها تكتفي اليوم بوسيلة إلهاء مثل هذه، مفضوحة ومكشوفة وركيكة. فالجمهور الترامبي منشغل، بمعنى الالتفاف والتأييد والتهليل، بقرارات ترامب «التاريخية» حول إسقاط حقّ الجنسية عن طريق الولادة، وبناء الجدران العازلة، وإرسال الجيش الأمريكي إلى الحدود؛ وآخر ما يعنيه أن تسقط الضحايا بالمئات، أو الآلاف، في أيّ مكان على وجه البسيطة، بالسلاح الأمريكي تحديداً.
وأمّا الكونغرس، أو الشطر الجمهوري فيه، فقد كان قد عطّل مشروع قرار يقضي بوقف المعونة العسكرية الأمريكية للسعودية في حربها ضد اليمن، ولم يكن التوقيت عبثياً لأنه تمّ خلال زيارة بن سلمان إلى الولايات المتحدة، وحين كان ترامب يشيد بصداقة أمريكا مع السعودية، «الدولة الثرية». ويومذاك، تعليقاً على تعطيل مشروع القرار، قال ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، إنّ «سحب الدعم الأمريكي سوف يزيد، وليس ينقص، من خطر سقوط الضحايا المدنيين، لأنه سوف يعطي إشارة بأننا لسنا جادّين حول احتواء إيران أو أتباعها».

اغتنام الاشتباك الإيراني ــ السعودي على أرض اليمن، بغية تسويق المزيد من تلك البضاعة الأثخن من النفط، وقطف مئات المليارات في عقود التسليح

وكما في كلّ مناسبة تتضمن نقاش السياسات الأمريكية العابرة للرؤساء، جمهوريين أو ديمقراطيين، فإنّ من الإنصاف إدراج أفعال أسلاف ترامب في البيت الأبيض، وعدم الاقتصار عليه وحده. ففي تقرير مفصل نشرته مجلة «نيويوركر» حول دور الولايات المتحدة في «عاصفة الحزم»، وكيف جعلتها أشدّ دموية على الشعب اليمني؛ تابع نيكولاس نياركوس خيوط تدخل إدارة أوباما أولاً بأوّل، ومنذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، عند توقيع عقود تسليح مع السعودية بقيمة 1.29 مليار دولار أمريكي، بينها أكثر من 7000 قنبلة من طراز Paveway ـ II الموجهة بأشعة الليزر. وفي نهاية عهد أوباما، كانت الولايات المتحدة قد زوّدت السعودية بما قيمته 115 مليار دولار من الأسلحة، أي ــ للتذكير المفيد ــ أكثر من العقود الراهنة التي يتفاخر بها ترامب!

كذلك فإنّ تاريخ صفقات التسليح بعشرات المليارات يعود إلى أواخر الستينيات، حين أدركت مصانع الأسلحة الأمريكية أنها يتوجب ألا تكتفي بمنافسة السلاح السوفييتي أو الفرنسي في أسواق الشرق الأوسط، بل أن تتفوق عليه أيضاً؛ كما يفصّل القول في هذا كتاب الأمريكية راشيل برونسون «أثخن من النفط». يُضاف إلى هذا ما يخفى عادة عن الجمهور العريض، أي عقود صيانة بعض الأسلحة الأمريكية، والتي ترتب على الخزانة السعودية عشرات المليارات الثابتة؛ كما، على سبيل المثال، صيانة 230 طائرة من طراز ف ـ 15، بقيمة 2.5 مليار دولار. ولكي لا يبقى ترامب وحيداً في الميدان، فإنّ سلفه أوباما سبق جميع رؤساء أمريكا، منذ فرنكلين روزفلت، في التقرب من آل سعود؛ فلم يرخّص عقود تسليح للسعودية أكثر من أيّ رئيس قبله، فحسب؛ بل تفوّق عليهم في عدد الزيارات إلى المملكة أيضاً.
من جانب آخر، كان النفوذ الأمني الأمريكي في اليمن، أيام نظام علي عبد الله صالح، قد بلغ مستوى من التدخل المباشر والصلافة دفع صحيفة «المؤتمر»، الناطقة باسم الحزب الحاكم، إلى اتهام السفير الأمريكي في صنعاء (إدموند ج. هَلْ، يومذاك) بأنه «يتصرّف مثل مندوب سامٍ لبلده وليس كسفير لدولة أجنبية، وآن الأوان لكي يدرك أنّ اليمن بلد مستقلّ ذو سيادة». المؤشر الأهمّ في هذا الصدد وقع أواخر العام 2003، حين تمت تصفية ستة مواطنين يمنيين كانوا يسافرون على طريق صحراوي شرق العاصمة صنعاء، بينهم علي قائد الحارثي ومحمد حمدي الأهدل، اشتبهت واشنطن بأنهما كانا يشغلان مواقع قيادية في منظمة «القاعدة». ولقد تأكد، بعد ذلك، أنّ ما حدث كان في الواقع عملية اغتيال منظمة نفّذتها القوّات الأمريكية الخاصة عن طريق قصف السيارة بصاروخ من طائرة أمريكية بلا طيّار. وتردد أيضاً، وعلى نطاق واسع، أنّ السفير الأمريكي كان قد زار منطقة الحادث قبل ثلاثة أيام، وتوفّر مَن اتهمه بالإعداد اللوجستيّ والإلكتروني الذي سمح بتوجيه الطائرة من الأرض.
وفي العموم، كان خبراء الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في ميادين الأمن والدبلوماسية بصفة خاصة، على يقين من أنّ اليمن هي أهمّ المواقع التي يُحتمل أن يتحوّل إليها أسامة بن لادن ومنظمة «القاعدة»؛ خصوصاً وأنّ البلد ملائم تماماً لهذا، من حيث الجوانب اللوجستية (المناطق الوعرة في الجبال والوديان والصحارى، هيمنة القبائل في مناطق لا تخضع للسلطة المركزية إلا بالاسم، وجود أحزاب إسلامية ومجموعات أصولية متشددة، الخ…)؛ فضلاً عن كونها بلد بن لادن الأصلي، ومسقط رأس أبيه. لاحقاً، وبعد انطلاقة الانتفاضات العربية واهتزاز نظام صالح واندلاع الحرب الأهلية مع الحوثيين، ثمّ تحالف صالح معهم ضدّ ما اعتُبر «سلطة مركزية» يترأسها عبد ربه منصور هادي؛ عادت المقاربة الأمريكية إلى جذورها الأولى، أي اغتنام الاشتباك الإيراني ــ السعودي على أرض اليمن، بغية تسويق المزيد من تلك البضاعة الأثخن من النفط، وقطف مئات المليارات في عقود التسليح.
وفي ضوء هذا الميزان، فإنّ ما يُسمّى «رؤية جديدة» للولايات المتحدة في اليمن ليس سوى ذرّ للرماد في العيون، ومسعى لغسل يدَيْ بن سلمان من دماء خاشقجي، ثمّ متابعة وزن دماء اليمنيين بمثاقيل العقود المليارية.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

المقال كاملا من المصدر اضغط هنا

Essa

The post الولايات المتحدة في اليمن: ما الأثخن من النفط؟ appeared first on بتوقيت بيروت.



from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2OiCTxN
via IFTTT

Related Posts

0 تعليق على موضوع "الولايات المتحدة في اليمن: ما الأثخن من النفط؟"

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel