
زمن «الهَوشة»: عن مفهوم للاحتجاج في لحظة «السترات الصفراء»

نواجه اليوم صعوبة في إيجاد مصطلح قادر على التقاط معنى «الرايوت» بالإنكليزية، أو «ايموت» بالفرنسية، بالشكل الذي يمكن أن يساهم، إيجاباً، في تفكّر الحيويات الاحتجاجية والتصادمية.
فالاحتجاج وحده لا يفي بالغرض، والشغب تثبيت على عنصر سلبي اختزالي، والاضطراب أكثر شمولية من تخصيصه بـ«الرايوت» ليس إلا، والقلقلة بالمفرد لا تؤدي مفعول القلاقل بالجمع.
لا يمرّ شهر واحد دون أن يعترضك هذا الإشكال اللغوي إن حاولت وصف الأحداث والمشاهد المتنقلة في عالم اليوم، بشكل يلتقط الخيط الواصل بين ديناميات احتجاجية وتصادمية تنتمي إلى سياقات وأوضاع جد متباينة.
الحال مع «الرايوت / الإيموت» عويصة أكثر، لأنّ الحوادث التي توضع في خانتها كثيرة، وكثيفة، ولا تكاد تهمد في مكان حتى تنشب في آخر، مشكّلة المنافس الأساسي لثنائية «الانتخابات والأعمال الإرهابية» في نشرات الأخبار. المنافس الأقرب إلى الحياة.
شاهد أيضا
معجمياً، تعني «الهوشة» الإزدحام والإختلاط «هوشات السوق»، كما الإضطراب والفتنة «زرع الهوشة بين الناس»، والحال أن إجتماع هذين المعنيين يكسب اللفظ جدارة إصطلاحية، في مقابل «رايوت» و«إيموت».
يظهر ذلك عند قراءة كتاب أساسي لفهم هذه الدينامية «الرايوتية» المتصاعدة عبر العالم، وهو كتاب الأمريكي جوشوا كلوفر «الهوشة (رايوت) ثم الإضراب ثم الهوشة» الصادر عام 2016، المترجم هذا العام بالفرنسية «الهوشة (الإيموت) أولاً» (والذي يوضح مترجمه أن «رايوت» نفسها تتحدر من لفظ فرنسي «ريوت» لم يعد متداولاً إلا في نطاق محلي ضيق غرب البلاد، ليفيد حالياً معنى المشاجرة فحسب).
طوّرت الطبقة العاملة الصناعية، وطوّر التقليد الماركسي نظرته إلى المناقضة الواجبة بين «الهوشة» و«الإضراب»، مثلما طوّر الماركسيون نقدهم للحيلة الفوضوية المسماة «الإضراب الشامل»، الذي هو إلى «الهوشة» أقرب
وما يطرحه كلوفر أنّه، مع تراجع الحركة العمالية الغربية، تتوارى دينامية «الإضراب» لصالح «الهوشة»، وتتبدّل سمة «الهوشة» في نفس الوقت، فهذه كانت قبل القرن التاسع عشر «هوشات من أجل الخبز»، وضد تصدير الحبوب، لكنها ما عادت تنشب في وقتنا الحالي أمام مخازن القمح، إنما أمام مراكز الشرطة ومظاهر الدولة، رداً على غلاظة بوليسية هنا، وتملّص قضائي من ملاحقة تجاوزات البوليس هناك، على غرار «هوشة لوس انجلس» 1992، التي يعتبرها منعطفاً أساسياً. وفيما كان الطور الأول من «الهوشات» مكانه السوق، وبشكل أساسي المرفأ، والثاني، القرن التاسع عشر، مكانه المعمل، فإن «الهوشات» باتت تنحو اكثر فأكثر بإتجاه الشارع.
أما الإضراب فهو تاريخياً إبن «الهوشة» الذي تميّز عنها وصار له نمطه الخاص، بل أنّ النظرة تطورت في القرن التاسع عشر لإبعاد فكرة «الإضراب» أكثر فأكثر عن فكرة «الهوشة».
الصورة التي بناها «الإضرابيّون» عن أنفسهم في العصر الحديث هي أنهم غير انفعاليين، وتراكميين، ومنضبطين، بنقابة أو بحزب، ولا ينزلون إلى مستوى «الهوشة». في الهوشة يجري تكسير زجاج المحلات، ونهب الخبز، وتندلع النيران لتصيب الجميع، أما عندما يضرب عمال الزجاج أنفسهم فإنهم يحاذرون من إيقاع أي لوح زجاج. تكسير الزجاج ليس له أثر عند عمال زجاج «فلينت» 1858، في مقابل تكسيره على أوسع نطاق في هوشة بالحي التجاري لبيرمينغهام عام 1839. من خلال المقارنة بين هذين النموذجين طوّرت الطبقة العاملة الصناعية، وطوّر التقليد الماركسي نظرته إلى المناقضة الواجبة بين «الهوشة» و«الإضراب»، مثلما طوّر الماركسيون نقدهم للحيلة الفوضوية المسماة «الإضراب الشامل»، الذي هو إلى «الهوشة» أقرب. يلفت كلوفر في المقابل إلى أن روزا لوكسمبورغ في كراس «الإضراب الجماهيري، والحزب، والنقابة» 1906 لم يكن هدفها إعادة الاعتبار لعفوية الجماهير، على ما جنحت اليه القراءة المتسرّعة، بل نقد كل نظرة اكتفائية إما «الهوشة» وإما «الإضراب»، باعتبار أنه ليس هناك ما له أولوية بالمجرّد، وإنّما بحسب مجرى الصراع الطبقي.
رغم كراس روزا هذا، وجد القرنان الماضيان صعوبة جمة في الإقرار بـ«الهوشة» كشكل للصراع الطبقي، هي التي كانت أم الإضراب ثم نفر الأخير منها. أطروحة كلوفر أنّ جدلية «هوشة ـ إضراب ـ هوشة» باتت تعني بالنسبة إلى واقع عالمنا اليوم العودة إلى أولوية «الهوشة» على «الإضراب»، لأن «الهوشة هي الصراع الطبقي من موقع المستبعدين عن العمل المأجور».
يمكن التحفظ على «النعوة» الضمنية للإضرابات عند كلوفر، إلا أنّه في المقابل، إذا كان «البشر يصنعون تاريخهم لكنهم لا يصنعونه اعتباطاً، وبالشروط التي يختارونها بأنفسهم، إنما بشروط ممنوحة مباشرة وموروثة من الماضي» كما كتب ماركس في بداية «الثامن عشر من برومير»، فالأقرب إلى وصف المشهد في عصرنا، أن البشر يصنعون تاريخهم بالهوشات أولاً، أكثر مما يصنعونه بالإضرابات والنقابات والانتخابات، وأكثر مما يصنعونه بالثورات. المشكلة تبدأ عندما تتابع قراءة نفس المقطع لماركس: «ان تقاليد جميع الأجيال الميتة تنوء بحمل ثقيل على أدمغة الأحياء».
فالأجيال الميتة اليوم باتت أجيال «العصر الإضرابي» من تاريخ الرأسمالية. إذا كانت مشكلة جوشوا كلوفر أنّه يقلّل من الأهمية الحاضرة والمستقبلية للإضرابات، فمشكلة العالقين بـ«مركزية الإضراب»، هي أنّهم يدركون جيداً السمة المحافظة لتعلّقهم هذا. تارة تأخذ بهؤلاء السكرة إلى رفض «سياسة الهوية» بحجة الاشتياق إلى «القضايا الاجتماعية»، حتى إذا لاح «الاجتماعي» بالشكل الذي لا يعجب خاطرهم يستذكرون الإضراب المشهدي، اضراب عمال الزجاج الذي لا يكسر فيه زجاج، ويبكون على الزجاج، سواء الذي كُسِرَ في غير وقته، أو الذي في وقته لم يُكسَر.
كاتب لبناني
المقال كاملا من المصدر اضغط هنا
Essa
from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2TKuJ55
via IFTTT
0 تعليق على موضوع "زمن «الهَوشة»: عن مفهوم للاحتجاج في لحظة «السترات الصفراء»"
إرسال تعليق