-->
الجزائر: «الدوفيز تحرق» كذلك

الجزائر: «الدوفيز تحرق» كذلك

«الدوفيز» بالدارجة الجزائرية، هي العملة الصعبة أو الأجنبية، التي يكثر الحديث عنها ويحلم بامتلاكها الجزائريون، حدً الهوس، بالحلال أو الحرام أن اقتضى الأمر، بعد أن تحول الدولار الأمريكي والأورو وحتى الباوند (الجنيه الإسترليني) إلى عملة أمر واقع داخل سوق مالية موازية، تمكنت من فرض نفسها على السوق الرسمية للعملات، التي تحدد أسعارها البنوك العمومية الرسمية، لتحددها على أرض الواقع الاقتصادي، هذه العملات الأجنبية.
عملات يتم التغني بها في الأعراس والتفاخر بامتلاكها و»التبراح» بها في المناسبات. تملك أسواق عامرة في كل مدينة صغيرة وكبيرة، كسوق العاصمة بالقرب من مقر البرلمان الموقر (سكوار بورسعيد) عملات يتم التعامل معها بالبيع والشراء بشكل شبه روتيني في كل أحياء الجزائر، بدون أدنى حرج أو خوف، ضمن سوق مالية موازية تدير ظهرها للسوق الرسمية.
فعلا لا يمر أسبوع واحد، من دون أن تُلقي مصالح الجمارك القبض على مهربين للعملة الصعبة في مطارات وموانئ الجزائر البرية، البحرية والجوية. الذين خلقوا لأنفسهم شبكات شبه آمنة للتهريب، إذا قدرنا أن نسبة المحجوز عادة ما تكون ضعيفة جدا، كما هو معروف دوليا في كل عمليات التهريب. شبكات تهريب تتكلم الشائعات عن أسعارها وكيفية ضمان المرور على طريقها بالساعة والدقيقة، وعن تنظيمها الداخلي بين «الكباش» الذين يتكفلون بالنقل وأصحاب المال، كجزء من الفساد الذي ينخر مؤسسات البلد.

«حرقة الدوفيز» التي استفحلت في السنوات القليلة الأخيرة بشكل لافت، إذا اخذنا كمؤشر، حجم المحجوزات المهربة من أموال باليورو والدولار، المتوجهة إلى تونس، دبي وإسطنبول، التي تعد الوجهات المفضلة للمهربين، زيادة على بعض البلدان الأوروبية كإسبانيا، التي عرفت عمليات شراء واسعة للعقار من قبل العديد من المواطنين الجزائريين في السنوات الأخيرة. قد تفسر جزئيا على الأقل التوجه نحو هذا البلد القريب، علما بأن سوق العقار يبقى أكبر سوق مستفيد من هذه الحرقة للدوفيز، واقتصاد الفساد عموما داخل البلد وفي الخارج. كما بينت فضيحة شحنة الكوكايين الأخيرة التي ألقي القبض عليها بميناء وهران، بعد مرورها بإسبانيا. النشاط التجاري القائم بين دبي وتركيا والجزائر، قد يفسر من جهة أخرى عمليات التهريب هذه، ولماذا تتوجه نحو هذه البلدان المعروفة «بتسامح» نظامها المصرفي في استقبال أموال لا يتم النظر كثيرا في مصدرها، تستعمل كغطاء لتهريبها، الرحلات الجوية الكثيرة بين هذه البلدان والجزائر، بما تعكسه من تدفق بشري يومي، يحتل فيه التجار ورجال الأعمال المرتبطون بالسوق الموازية، الحيز الأكبر زيادة على نوع من «سياحة الشنطة».
ما يهمنا في الموضوع ليس هذه السوق المالية الموازية التي تكيف معها الاقتصاد الرسمي ونظامه المصرفي المترهل منذ سنوات. ما يهمنا هنا هو هذا الارتفاع في حجم المحجوز من عملة صعبة في المدة الأخيرة، التي تتكلم عنها الصحافة الوطنية يوميا وحتى طرق إخراجها البسيطة، في السيارات وحقائب السفر، بكميات كبيرة، بمناسبة رحلات جوية تجارية عادية، وماذا يعكس من خلفيات اقتصادية وسياسية خاصة وكيف يمكن تفسيره بالآني من الأسباب، وليس بالأسباب طويلة المدى المعروفة، المرتبطة بالاقتصاد غير الرسمي. علما بأن التفسير الاقتصادي لهذه الظاهرة ميسور وبسيط، فالاقتصاد البيروقراطي المسير إداريا اعتمادا على الريعي النفطي، الذي تبنته الجزائر بعد الاستقلال، هو السبب الرئيسي المفسر لهذا الوضع، الذي يفرض على رجل الأعمال الجزائري التعامل يوميا مع هذه السوق الموازية للعملات، كما يتعامل معها الطالب الذي يريد الدراسة في الخارج، والمريض الذي يتوجه إلى المستشفى الأجنبي، والحاج المغادر للأراضي المقدسة لأداء مناسك العمرة والحج. مناسبات أصبحت تحدد ارتفاع أسعار العملات وحدًة الطلب عليها وطنيا.

«حرقة» العملة الصعبة مؤشر للأوضاع السياسية في البلد وكيف يقيمها المواطنون الذين يغادرونها أفرادا وعائلات وأموالا

فالوضع له علاقة اكيدة بعدم الثقة في الأوضاع القائمة في البلد وهي تتخبط في مشاكل من كل نوع، ولا تعرف كيف تخرج منها، كما خرجت بلدان أخرى من أزماتها. وضع يجعل الفقير يهاجر، والغني كذلك يهاجر، الشاب الصغير يهاجر والكبير في السن يهاجر، فلماذا لا تهاجر «الدوفيز « كذلك هي المعروف عنها الذعر من الأوضاع غير المستقرة والمضطربة، أو تلك المقبلة على الاضطراب. كما يحس بذلك رجل الأعمال والمواطن الميسور، الذي أصبح من عادته هذه السنوات، كما تؤشر على ذلك سوق العملات في الجزائر، أن يحول كل مدخراته إلى العملة الصعبة ويعمل المستحيل على تهريبها إلى الخارج في أول فرصة، وهو مؤشر عن انعدام الثقة في حالة البلد ليس الاقتصادية فقط، كما يظهر من خلال تدهور قيمة العملة الوطنية، بل السياسية كذلك.

«حرقة» العملة الصعبة بشكل كثيف يمكن أخذها كمؤشر إذن لقياس الأوضاع السياسية في البلد وكيف يقيمها المواطنون الذين يغادرونها كأفراد وعائلات وأموال، وكأن البلد تحول إلى منصة لتحويل الأموال والكفاءات نحو الخارج، لا أحد يريد أن يربط مصيره الشخصي ومصير عائلته وامواله به، بلد مازال طاردا للاستثمارات الخارجية، كما تؤكد ذلك التقارير الدولية، رغم ما يتوفر لديه من إمكانيات اقتصادية كسوق متوسطة الحجم، بمؤهلات بشرية عالية، وموقع استراتيجي أكثر من مهم، يربط عبر المتوسط بين أوروبا وإفريقيا.
بالطبع هذا الاستنزاف لقدرات البلد المالية عن طريق تهريب العملة ليس الشكل الوحيد للاستنزاف، فقد تعود رجل الأعمال على الطريقة الجزائرية، القيام بعدة حيل، أضحت معروفة لتهريب العملة، تتم هذه المرة عن طريق البنك العمومي بمناسبة معاملات اقتصادية رسمية، كالتضخيم في الفواتير، وعدم التصريح بالقيمة الحقيقة للصفقات، والتلاعب بسعر العملة، وغيرها من الأساليب التي زادت أهميتها مع البحبوحة المالية التي ميزت الوضع الاقتصادي في الجزائر، خلال العقدين الماضيين على الأقل. حالة استنزاف ارتبطت بشكل بنيوي بالاقتصاد السياسي للفساد الذي تعيشه الجزائر. من الصعب الإفلات منه بدون قرارات سياسية واقتصادية جذرية، تعيد الثقة للمواطن الجزائري في بلده واقتصاده وعملته التي تدهورت قيمتها بشكل كبير في السنوات الأخيرة. فهل النظام السياسي الحالي قادر على ذلك؟ وهل موازين القوى بين العصب الحاكمة تسمح بذلك؟ أخاف أن تكون الإجابة عن هذه الأسئلة بالنفي وليس بالإيجاب كما يتمنى الكثير من الجزائريين المتفائلين الذين ربطوا مصيرهم بالبلد.
كاتب جزائري

المقال كاملا من المصدر اضغط هنا

Rim

The post الجزائر: «الدوفيز تحرق» كذلك appeared first on بتوقيت بيروت.



from صحف – بتوقيت بيروت https://ift.tt/2Q3dTfD
via IFTTT

Related Posts

0 تعليق على موضوع "الجزائر: «الدوفيز تحرق» كذلك"

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel